Saturday, November 12, 2016

في مديح ساويرس الذي كان

كنت أمر سريعا على بعض قنوات الإعلام المصري الذي لم أعد أتابعه منذ زمن، لأقف عند قناة "أون تي في" مندهشا من إذاعتها للأذان وقت أحد الصلوات. لم أكن حينها أعرف أن ملكيتها قد انتقلت بالفعل لامبراطور الحديد الجديد: أبو هشيمة.

كان الأمر غريبا على قناة اعتدت خطها التحريري و خارطتها و هويتها، و كان هذا قبل أن يتغير كل شئ فيما بعد بما فيه البراند نفسه. و للأذان في حد ذاته وقفه مع القنوات الفضائية، حيث لم تكن تذيعه حتى سنوات قليلة مضت أية قناة دينية كانت ام سياسية أم عامة، و كان لذلك مبرر وجيه، فإنه و إن كانت القنوات مصرية وتُبث من مدينة الإعلام لكن جمهورها من المصريين و العرب أوسع من الجمهور المحلي داخل مصر فلا معنى لبث أذان بمواقيت صلاة محلية أولى به تليفزيون أرضي فحسب.

تغير الأمر بالتزامن مع ظهور قناة المحور التي كانت صاحبة السبق في هذه البدعة الجديدة، أن تكون قناة عامة - بشعارها: شبكة العائلة العربية - وتبث الأذان المحلي لدولة بعينها وهي مصر. بالطبع لم تتحمل القنوات الدينية وقتها هذه المزايدة - رغم مطالبات سابقة عديدة من جمهورها بذلك - فبدأت قنوات مثل الناس و الحكمة بث الأذان بالتوقيت المحلي المصري؛ و هكذا صارت سنة اتبعتها بقية القنوات الإسلامية والعامة التي دخلت السوق الإعلامي لاحقا كأزهري و الحياة و النهار وغيرهم، حتى لحقهم متأخرا في النهاية القنوات الأسبق - رغم بعض المقاومة - مثل دريم التي رضخت للموجة فيما بعد... لكن ضغط الأقران ليس لدرجة أن تضطر قناة سياسية أيضا لنفاق المجتمع و كأنها تأسلمت ببث الأذان، أو هكذا ظن أبو هشيمة.

فيما تتغير حاليا ملامح القناة غير المبشرة، لم تكن بدايتها مبشرة أيضا حين ظهرت فيما سبق باسم "أو تي في" بنقطة ترويج رئيسية حقيرة وهي عرض الأفلام الأجنبية كاملة Uncut بمشاهدها الخارجة فلا يحتاج المراهقون لتبادلها على أجهزة الكمبيوتر أو البحث عنها على الإنترنت البطئ في ذلك الوقت. ظهرت بعدها قناة "أون تي في" كقناة ثانوية تجريبية بجوار القناة الأم قبل أن تفشل "أو" العامة بالفعل و تصبح "أون" السياسية هي الرئيسية وبجوارها قناة ثانية أخرى "أون لايف". والتي لم تكن بريئة أيضا باتهامات لترويج خفي للتطبيع مع إسرائيل ليس بعيدا عن علاقات ساويرس مع دحلان وأعمال شركة أوراسكوم في القدس.(راجع الوصف المكتوب في هذا الفيديو عن برومو قناة أون تي في)

ما علاقة هذا الاستطراد الطويل بعنوان التدوينة إذن؟ حسنا، أون تي في هي أحد ملامح تأثير نجيب ساويرس المحببة لدي إذا نحينا جانبا الخلاف السياسي معه. لقد كانت منذ قبل الثورة و حتى وقت قريب الأكثر تعبيرا عن الروح المصرية. بداية من الاسم الذي لا يعكس مجرد تمحكا مفتعلا بأصول فرعونية، بل يحمل فكرة ورسالة من معنى الاسم و شكل الشعار الذي يحمل النور المراد إيصاله بواسطة الدور المنوط به من الإعلام. و مرورا بعد ذلك بكل تفصيلة في خارطة برامج القناة و حتى الفواصل التي تحمل مشاهد أصيلة بعنوان "مصر الحلوة".

لم تكن القناة مجرد مشروع استثماري ولا ذراعا إعلامية لرجل أعمال يحمي بها مصالحه، ولكنها كانت مشروعا قائما بذاته، تتبنى خطا تحريريا متزنا قدر الإمكان، تستقطب كفاءات إعلامية مصرية و عربية، تجمع بين الاحترافية و البساطة لتشكل نكهة و مذاقا خاصا مفعم في التعبير عن الروح المصرية... تسمع فيها - ومن قبل الثورة - كلمات الثنائي المحظور نجم و إمام، وأشعار سيد حجاب..، يبرز فيها نجم يسري فودة ثانية بفصاحته الرائعة من مدرسة الجزيرة..، و تغرق في المحلية المتقنة مع ريم ماجد في "بالمصري الفصيح" ..، وتتجول مع معالم و رموز المحروسة في "نص ساعة" مع رشا الجمال مكملة مسيرة والدتها سامية الإتربي في حكاوي القهاوي.

ناهيك عن القناة التي تتبدل ملامحها حاليا، تشعر بشخصية ساويرس في اختياراته أيضا ليس في المكون المتجانس للقناة فحسب، بل حتى في إعلانات موبينيل التي كانت لها روح خاصة مميزة أيضا تستطيع أن تلحظ تغيرها بعدما صارت مثل أي شركة متعددة الجنسيات ببراند عالمي ولغة خطاب مختلفة حتى لو حاولت مخاطبة جمهور محلي.

وبمناسبة موبينيل، فبغض النظر عن البدايات المشوبة بالفساد وهي سمة العلاقة المشوبة بين الحكومة و رجال الأعمال في ذلك العصر، فقد كان لساويرس موقف قوي - أو هكذا صدقنا - عندما تمسك بنصيبه في موبينيل أمام محاولة استحواذ أورانج الأولى، قبل أن يتخلى عن كل شئ و يخرج معظم استمثاراته من مصر فيما بعد، بعد أن ساهم في خرابها بتمويل جبهة الإنقاذ و تقديم الغطاء للانقلاب الذي لم ينل منه شيئا سوى إسقاط معظم ما كان سيسدده للدولة من ضرائب في عهد مرسي..، لكن للسياسة حديث آخر، فهنا فقط مجرد محاولات رصد بصمات تركها رجل أعمال مختلف عن معظم من يديرون البزنس في مصر.

حتى دوره خارج نطاق السياسة منذ تمويل حزب الغزالي حرب لحزبه المصريين الأحرار فيما بعد، فدوره المجتمعي من خلال مؤسسة عائلته التنموية، تلعب دورا مختلفا عن مجرد تقديم المساعدات الاجتماعية المباشرة لأهل دائرة لكسب أصواتهم الانتخابية فيما بعد مثلما يفعل أبو العينين مثلا، ولم يدخل تحالفا قريب من الحكومة مثل مصر الخير، ولكنه يلعب دورا مستقلا بمشاريع نمية حقيقية تشمل تدريب ورعاية مشاريع و حتى منح للدراسة بالخارج، ناهيك عن الدور الثقافي و المسابقات الأدبية، بغض النظر عن اتفاقك مع معاييره و نوعية الكتاب و الأدباء الذين تفرزهم جوائزه، لكنه على كل حال يثري حالة الحراك الأدبي و الثقافي فيما لا تلعبه أي مؤسسة أخرى ناهيك عن الدولة.

أخيرا، ليس الهدف من التدوينة تجميل وجه قبيح له ما له و عليه ما عليه، بقدر ما هي تسليط للضوء على جوانب إيجابية في نموذج كان ليكون جيدا لو استمر على ما هو عليه، أيا ما كان خلافنا مع آرائه أو خصومة مع سياساته.

No comments:

Post a Comment