Friday, June 01, 2012

عن مستويات الإدراك و الاختزال و ثقافة الإنكار

بينما تتراوح مشاعر "الثوار" تجاه "أهل الكنبة الفلول" ممن يصدقون تزييف الإعلام بين الاستهزاء و السخرية و الاحتقار، أجدني أشعر تجاههم بالرثاء و الشفقة بجانب قدر من اللوم تجاه الثوار لتقصيرهم حين يظنون عدم جدوى تغيير تفكير هؤلاء فيتقاعسوا عن القيام بدور من أدوار الثورة و هو معركة الوعي.

فيا أيها الثائر اللوذعي، قبل أن تضحك على أو تحتد مع هؤلاء المساكين، أما ساءلت نفسك أقد ولدت هكذا حقا أم أنه كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ؟

حاول أن تتبع تاريخ تطور طريقتك في التفكير تجاه أي قضية و علاقة ذلك بكم المعلومات التي تحصلت عليها حتى تصل في النهاية لبناء وجهة نظرك النهائية..، ستجد أنك مررت بمرحلة اختزال تبسيطية تطورت إلى صورة مركبة أكثر تعقيدا عبر مستويات من الإدراك تتناسب مع مقدار الاهتمام و المعلومات التي قمت بمعالجتها وتبينت الحقائق منها من الزائف حتى وصلت لأعلى مستوى من الإدراك و القدرة على التمييز تجاه هذا النوع من القضايا دون غيره.

لتتصور كيفية اختزال التصور الذهني و تطوره مع كم المعلومات المعالجة، جرب أن تتابع طفلًا صغيرًا و هو يتعلم الكلام و إدراك ما حوله..
ستجده مثلا يستطيع تمييز "بابا" بينما يطلق على كل رجل آخر غيره لقب "جدو" مثلا ثم يبدأ في تمييز ذلك لاحقا.
ستجده يطلق على كل ذوات الأربع في الشارع لقب "قطة" حتى لو كانت كلبًا أو حمارًا، ثم يستطيع تمييز القط كحيوان دونا عن بقية الحيوانات، ثم يرتقي ليميز قطته المنزلية "بوسي" عن قطط الشوارع، وهكذا.

الشاهد أنه في كل مرحلة من مراحل الإدراك الاختزالي، يكون التصور الذهني صحيحا لا تستطيع أن تخطئه أو تنتقده و ذلك وفق المعطيات المحدودة من كم المعلومات المعالجة في تلك المرحلة من الإدراك ... و هكذا الأمر بالنسبة لأي شخص في أي مرحلة عمرية عند تعاطيه مع أي قضية مستجدة من نوعها بالنسبة له فيأخذ مسارًا طبيعيًا من الإلمام بها من الاختزال إلى الإدراك المركب متناسبا مع كم و ترتيب المعلومات و الحقائق التي يعالجها تجاه القضية.

في محاولة لتقديم تفسير نفسي لمستويات إدراك الشعب و تعاطيه مع الثورة تشير د.منال عمر إلى 5 مستويات من النمو الأخلاقي و المعرفي تبدأ من الطفولة العقلية الساذجة:


فمن المهم أولا معرفة مستوى تفكير من تخاطبه، ثم ثانيا عدم التبرم أو اليأس من إمكانية ارتقاء وعيه لمستوى أعلى فقط حين تعرض أمامه معلومات جديدة بطريقة منظمة، و تذكر أنك لم تولد هكذا.

و من الملاحظ أن تلقي معلومة مخالفة للنموذج المعرفي الاختزالي للمرء يمثل عادة صدمة للوهلة الأولى يقابلها في الغالب بثقافة الإنكار، وهو الرد الطبيعي من عدم التصديق قبل أن تعيد المعلومات الجديدة برمجة نموذجه للإدراك.

أذكر حين حاولت كتابة موضوع تعبير ساعة أحداث الدير البحري بالأقصر أن المنطلق كان رفض فكرة وجود جماعات منتسبة للإسلام من الأساس تقوم باعتداء على سياح يابانيين و أن الموضوع بالضرورة مؤامرة صهيونية على الطريقة البكرية أيام ما كان يمثل رمزا للصحفي الصادع بالحق صاحب القضية. طبعا تغيرت نظرة التناول للحدث أو الأحداث المشابهة كما تغير التعاطي مع شخص مصطفى بكري و نظرياته، لكن الشاهد أن ثقافة الإنكار هو أمر متوقع ولا ينبغي أن تكون سدا يصد عن الاستمرار في محاولة تغيير وعي المخاطب ممن ينكر على الثوار و "العيال بتوع التحرير اللي مش عارفين عايزين ايه".

ختاما، لا يرتبط مستوى الوعي و القدرة على معالجة المعلومة أو تلقي الصدمة و قبولها أو إنكارها لاصطدامها بنموذج اختزالي بفئة أو شريحة معينة من التعليم أو الثقافة، بل ربما يكون الأمي أكثر وعيا فلا قاعدة هنا.


القاعدة الوحيدة أن طريقة تفكير نفس الشخص ليست بالضرورة متسقة مع كل قضية يتعاطى معها، فلا تستغرب أن يتفوق عالم عبقري من شرق آسيا في علم تكنولوجي دقيق جدا بينما يمارس طقوس عبادة و تقرب لحيوان حقير مثلا.


فقط لا تندهش و لا تظن بالضرورة أن طريقة تفكيرك التي تظن أن منطقها من البداهة الواضحة ستصل بالضرورة للآخرين دون تدرج و جهد و مثابرة.