Saturday, July 28, 2012

في أي مكان التقيا، وماذا كان حديثهما ؟‎


تجاور الجثمانان في قبلة المسجد في انتظار قدوم الإمام ليصلي عليهما صلاة جنازة واحدة ولينقلهما المشيعين من أهليهما لمقبرتين متجاورتين في نفس منطقة المدافن.

متقاربا السن في العقد الرابع من العمر، كانا يسكنان حيا واحدا، لكنهما ربما لم يلتقيا من قبل أو يتعارفا قبل صدفة هذه اللحظة التي ستجمعهما متجاورين تحت الأرض.

كان هذا المسجد مألوفا للأول فهو يسكن بالقرب منه و يواظب على صلوات الجماعة فيه و التي يختمها دائما بدعاء "اللهم أمتني على شهادة في سبيلك"، كما كان يقدمه المصلون بعد الضغط عليه للإمامة في صلاة الفجر لخشوع تلاوته؛ بينما الثاني بيته أبعد و لم يكن يقرب المسجد المجاور لبيته سوى في الجمعة، أما بقية الصلوات فبالكاد يصليها قبل وقتها أو قضاءا و ربما يجمعها في نهاية اليوم.

قبل وصولهما للمسجد لاحظ المغسل إصابة قديمة في القدم اليسرى لكل منهما لا علاقة لها بسبب وفاتهما

كانت للثاني نتيجة شجار قديم مع أحد الزبائن على المقهى تطور إلى عراك حتى أصابه خصمه تلك الإصابة التي أهمل علاجها و لم يشأ أن يقتص أو يحرر محضرا بل ارتعب و آثر السلامة حين علم أنه أمين شرطة بأمن الدولة.

أما الأول فقد كان ناشطا أثناء فترة دراسته بالجامعة و قريبا من حراك التيارات السياسي و الدعوي و إن لم ينتم لأي منهم وقد جاءته تلك الإصابة أثناء اشتباك مع قوات الأمن المركزي خلال إحدى مظاهرات دعم الانتفاضة الفلسطينية الأولى... كان جريئا ممتلئا بالحيوية و الأمل و الطاقة و الإقدام، بل كان يمازح جاره ضابط مباحث أمن الدولة بأن "شنطة هدومه جاهزة على طول"... ابتعد بعض الشئ - بل كثيرا - بعد تخرجه و انخراطه في دوامة الحياة حيث عمل موظفا و تزوج و أنجب، ولكنه تعرض لظلم الحبس أيضا و لكنه من نوع آخر.

كان ذلك حين قرر ترك بلدته و الإقامة الدائمة في القاهرة بعد نزاع طويل في المحاكم مع المستأجرين ليتمكن من بيع بيت أبيه، حيث كان أحدهم بلطجيا مستمتعا بإقامته شبه المجانية رافضا كل عروض التراضي. فلما تم الأمر أراد ذاك المستأجر أن ينتقم ببلاغ تعد كيدي و شهود زور لم يملك أمامهم القاضي سوى أن يقضي بحبسه شهرا كاملا رغم قناعته ببراءته.

لم يسلم الثاني من السجن هو الآخر قبل وفاته بعام في زخم الثورة التي لم يكن يتخيل يوما أن يكون له علاقة بفكرتها أو بما يقرب السياسة من الأساس.

قابل الاثنان دعوات تحرك الجماهير للخامس و العشرين من يناير بغير اكتراث، سمع عنها الثاني بالصدفة بينما الأول ظل متابعا للشأن العام وفي باله حلمه و على لسانه دعاؤه.

اهتم الأول بالمتابعة و إن تشكك في الجدوى، اندهش مما انتهى عليه يوم الثامن والعشرين و إن استبعد أن تسقط الرأس، تأثر بالخطاب الثاني العاطفي و لم يتذكر محن نضاله و رفاقه و لا مرارته ساعة غياب العدالة، تنفس الصعداء عند سقوط الرأس و اكتفى بنشر الدعوة للإيجابية و العمل بين زملائه الذين شاركوه تفاؤله و إن لم يستجيبوا لنداءات التغير و ظلوا على نمطية روح الموظفين.

أطل الثاني من الشباك حين مرت إحدى مسيرات الثامن و العشرين من تحت بيته و طلب منه أحدهم زجاجة مياه. أخذ يتابع الهتاف بتركيز لأول مرة، و رثى بعض الشئ لحاله حيث لم يتزوج بعد مرور أكثر من ثلاث عقود و لم يستقر في عمل ثابت يؤمن له مستقبلا جيدا... تردد كثيرا ثم نزل ليتابع عن بعد المسيرة بعد أن ابتعدت عن بيته بربع الساعة...
مر بعض الوقت قبل أن يلحظ حالة كر وفر و هرج، و رأى الشاب الذي أعطاه زجاجة المياه و هو يحمل كهلا خمسينيا غارقا في دمه... لم تستغرق حالة جزعه جزءا من الثانية حتى هرول محاولا المساعدة في الإنقاذ في تلك اللحظة التي مثلت عاملا فارقا في حياته نسي فيها سلبيته و انعزاله و جبنه و تردده، حيث شارك بقوة و طاقة رهيبة في الثورة و كافة فعاليتها و أحداثها تقريبا، عدا شهرا واحدا قضاه في السجن في واحدة من تلك القضايا العسكرية الملفقة التي تستهدف النشطاء غير المعروفين إثر أي حدث ثوري يسب إزعاجا للسلطة.

تحقق التربي من تصريح الدفن لكل من الجنازتين، و ارتسمت على وجهه أمارات الدهشة و التساؤل رغم اعتياده الروتيني للموقف حتى فهم تفاصيل سبب وفاتهما بعد ذلك.

كان الأول في بلدته يحضر فرحا لأحد أقربائه حين انطلقت رصاصة طائشة من مسدس عمه الذي نسيه في يد أحد غلمان العائلة بعد أن ظن إفراغ جميع طلقاته ابتهاجا بالزفاف السعيد الذي تحول إلى مأتم حين أصابت الرصاصة الأخيرة المنسية صدر الرجل و أودت به في الحال.

في نفس اللحظة في القاهرة بعد منتصف الليل كانت رصاصة أخرى مصوبة و تعرف هدفها من القتل العشوائي تنطلق تجاه صدر الثاني من سلاح ميري حولته إلى رقم و اسم من المنسيين في سجلات ضحايا أحداث مجلس الوزراء.

رقد الرجلان في مستقريهما البرزخي و مكث المشيعون وقتا غير كثير أما المقبرتين، ثم بدأوا في الانصراف في الوقت الذي أخذت روحيهما تصعد في السماء و إن لم يدر أحد في أي مكان التقيا و ماذا كان حديثهما.

Friday, June 01, 2012

عن مستويات الإدراك و الاختزال و ثقافة الإنكار

بينما تتراوح مشاعر "الثوار" تجاه "أهل الكنبة الفلول" ممن يصدقون تزييف الإعلام بين الاستهزاء و السخرية و الاحتقار، أجدني أشعر تجاههم بالرثاء و الشفقة بجانب قدر من اللوم تجاه الثوار لتقصيرهم حين يظنون عدم جدوى تغيير تفكير هؤلاء فيتقاعسوا عن القيام بدور من أدوار الثورة و هو معركة الوعي.

فيا أيها الثائر اللوذعي، قبل أن تضحك على أو تحتد مع هؤلاء المساكين، أما ساءلت نفسك أقد ولدت هكذا حقا أم أنه كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ؟

حاول أن تتبع تاريخ تطور طريقتك في التفكير تجاه أي قضية و علاقة ذلك بكم المعلومات التي تحصلت عليها حتى تصل في النهاية لبناء وجهة نظرك النهائية..، ستجد أنك مررت بمرحلة اختزال تبسيطية تطورت إلى صورة مركبة أكثر تعقيدا عبر مستويات من الإدراك تتناسب مع مقدار الاهتمام و المعلومات التي قمت بمعالجتها وتبينت الحقائق منها من الزائف حتى وصلت لأعلى مستوى من الإدراك و القدرة على التمييز تجاه هذا النوع من القضايا دون غيره.

لتتصور كيفية اختزال التصور الذهني و تطوره مع كم المعلومات المعالجة، جرب أن تتابع طفلًا صغيرًا و هو يتعلم الكلام و إدراك ما حوله..
ستجده مثلا يستطيع تمييز "بابا" بينما يطلق على كل رجل آخر غيره لقب "جدو" مثلا ثم يبدأ في تمييز ذلك لاحقا.
ستجده يطلق على كل ذوات الأربع في الشارع لقب "قطة" حتى لو كانت كلبًا أو حمارًا، ثم يستطيع تمييز القط كحيوان دونا عن بقية الحيوانات، ثم يرتقي ليميز قطته المنزلية "بوسي" عن قطط الشوارع، وهكذا.

الشاهد أنه في كل مرحلة من مراحل الإدراك الاختزالي، يكون التصور الذهني صحيحا لا تستطيع أن تخطئه أو تنتقده و ذلك وفق المعطيات المحدودة من كم المعلومات المعالجة في تلك المرحلة من الإدراك ... و هكذا الأمر بالنسبة لأي شخص في أي مرحلة عمرية عند تعاطيه مع أي قضية مستجدة من نوعها بالنسبة له فيأخذ مسارًا طبيعيًا من الإلمام بها من الاختزال إلى الإدراك المركب متناسبا مع كم و ترتيب المعلومات و الحقائق التي يعالجها تجاه القضية.

في محاولة لتقديم تفسير نفسي لمستويات إدراك الشعب و تعاطيه مع الثورة تشير د.منال عمر إلى 5 مستويات من النمو الأخلاقي و المعرفي تبدأ من الطفولة العقلية الساذجة:


فمن المهم أولا معرفة مستوى تفكير من تخاطبه، ثم ثانيا عدم التبرم أو اليأس من إمكانية ارتقاء وعيه لمستوى أعلى فقط حين تعرض أمامه معلومات جديدة بطريقة منظمة، و تذكر أنك لم تولد هكذا.

و من الملاحظ أن تلقي معلومة مخالفة للنموذج المعرفي الاختزالي للمرء يمثل عادة صدمة للوهلة الأولى يقابلها في الغالب بثقافة الإنكار، وهو الرد الطبيعي من عدم التصديق قبل أن تعيد المعلومات الجديدة برمجة نموذجه للإدراك.

أذكر حين حاولت كتابة موضوع تعبير ساعة أحداث الدير البحري بالأقصر أن المنطلق كان رفض فكرة وجود جماعات منتسبة للإسلام من الأساس تقوم باعتداء على سياح يابانيين و أن الموضوع بالضرورة مؤامرة صهيونية على الطريقة البكرية أيام ما كان يمثل رمزا للصحفي الصادع بالحق صاحب القضية. طبعا تغيرت نظرة التناول للحدث أو الأحداث المشابهة كما تغير التعاطي مع شخص مصطفى بكري و نظرياته، لكن الشاهد أن ثقافة الإنكار هو أمر متوقع ولا ينبغي أن تكون سدا يصد عن الاستمرار في محاولة تغيير وعي المخاطب ممن ينكر على الثوار و "العيال بتوع التحرير اللي مش عارفين عايزين ايه".

ختاما، لا يرتبط مستوى الوعي و القدرة على معالجة المعلومة أو تلقي الصدمة و قبولها أو إنكارها لاصطدامها بنموذج اختزالي بفئة أو شريحة معينة من التعليم أو الثقافة، بل ربما يكون الأمي أكثر وعيا فلا قاعدة هنا.


القاعدة الوحيدة أن طريقة تفكير نفس الشخص ليست بالضرورة متسقة مع كل قضية يتعاطى معها، فلا تستغرب أن يتفوق عالم عبقري من شرق آسيا في علم تكنولوجي دقيق جدا بينما يمارس طقوس عبادة و تقرب لحيوان حقير مثلا.


فقط لا تندهش و لا تظن بالضرورة أن طريقة تفكيرك التي تظن أن منطقها من البداهة الواضحة ستصل بالضرورة للآخرين دون تدرج و جهد و مثابرة.

Thursday, January 26, 2012

موال راحة البال

من حيث لا يحتسب، جاءته نسبة معتبرة و إن كانت ضئيلة من المال من ميراث قريب بعيد كانت قد انقطعت أخباره بعد سفره و لم يعلم بوفاته إلا حين استدعاه القاضي لينال نصيبه.
فرح كثيرا، و أخذ يطلق لخياله العنان فيما يمكن أن يفعله بهذا المال الذي لا يقارن بما يدره عليه حانوته الصغير من دخل يكفيه بالكاد.
نام ثم صحا مبكرا منتشيا مما رآه في الحلم من متاع سيحققه و ينعم به من هذه الثروة البسيطة.
لم يفتح الحانوت في هذا اليوم، بل أخذ النقود التي حصل عليها جميعا بعد أن و ضعها في صرة و ارتدى أفضل حلة لديه و انطلق إلى السوق.
أخذ يملي عينيه من البضائع غالية الثمن التي لم يكن يفكر من قبل في مجرد النظر إليها، فضلا عن أن يحلم بشرائها، ثم أخذ في شراء كل ما يمكن أن يشتهيه أو تتوق له نفسه توقا شديدا كان أو عابرا، و بكميات لا تكفيه فحسب، بل حتما تفيض عن حاجته كثيرا.
لم يشرع في الانصراف من السوق إلا حين بدأ يتسرب الملل إليه من كثرة الشراء، و كان قد تبقى معه اليسير من النقود ما يكفي لأجرة حمال وشراء بعض السلع البسيطة الأخرى؛ لكنه لم يشأ أن يستأجر واحدا فهو بصحة جيدة لا يحتاج مساعدة، و عله يدخر ما تبقى لمرة تسوق أخرى.
سلك طريقه من السوق إلى البيت ماشيا و هو يمني نفسه بما سيفعله بكل هذه السلع و كيف ستجلب له السعادة... أخذ يفكر كيف سيقوم بإعداد هذا الطعام الذي لم يتناول مثله قط و سمع فقط ما يتداوله الناس عن قصص أثرياء التجار و موائدهم العامرة... تدبر أمره أين سيضع قفص الطائر الذي ابتاعه، و ماذا سيطعمه، و كيف سيدربه... ظل يحسب أنى له أن يهيئ مدخل بيته بتلك التحفة الثمينة ثم يأمن ألا يصيبها أطفال جيرانه و هم يلعبون فيحطمونها...
و بينما هو في منتصف المسير، بدأ يستشعر التعب من الحمل الذي أثقل كاهله و آلم ذراعيه و أوجع قدميه، ففكر أن يجلس و يستريح قليلا أو أن يحاول استدعاء الحمال، ولكنه صبر نفسه بأن المسافة قليلة و عندما سيصل سيلهيه ما اشتراه و ينسيه هذا الجهد.
فواصل طريقه مستمرا في التفكير و حمْل هم أمور مشترياته الجديدة، حتى إذا قارب على الوصول إلى بيته و كان قد اشتد به التعب و بلغ به إرهاق الحمل مبلغه، إذا به يلمح صندوقا ضخما لتجميع القمامة على جانب الطريق، فما كان منه إلا أن ألقى كل حمولته في صندوق القمامة و استستلم تماما لشعور الراحة التي دبت في أوصاله ، ثم أخرج ما تبقى من نقود و أعطاها لأول عابر لمحه في طريقه، و انصرف مسرعا قبل أن يكلمه عابر السبيل و يفهم منه أو حتى يشكره، ثم دخل بيته فبدل الحلة و ارتدى حلة حرفته وفتح الحانوت و طفق يعمل كما لم يعمل من قبل.

Tuesday, January 24, 2012

عود إلى البدايات



"هم ليه ما يعملوش ثورة؟"
لا أذكر تحديدا الدافع ساعتها وراء هذا السؤال الذي لا أظن أنه  نتيجة اهتمام مبكر بالشأن العام لمن هو في الصف الإعدادي لم يمض من عمره سوى عقده الأول ليس له سوى ملاحظات و تذمرات عابرة من النظافة و النظام في الشارع أو سماع تعليقات و حكاوي الكبار عن حال البلد.
لا أظن أني كنت أدرك معنى و أبعاد مفهوم كلمة ثورة وقتها، كما لم أحدد من هؤلاء الـ "هم" الذين سيقومون بها و لم أعرف أنه ينبغي أن تكون "نحن"

خضت الجدالات المشهورة الخاصة ببناء الهرم من القاعدة للقمة أم أن السمكة تفسد من الرأس.
تبنيت الشعار الإصلاحي "بدلا من أن تلعن الظلام، أوقد شمعة" في المقابل كان يرد صديقي الثوري مباشرة بـ "العن الظلام". 
لم ألعن كما طلب و إن كنت أقدر نشاطه في كفاية و معجب بالحراك السياسي الحاصل على الأرض و في المجتمع التدويني الموازي
لم أستمر كثيرا في حمل الشمعة إثر المرور بين حالة و أخرى و عاشرة لا تبقى لك سوى الكفر بالوطن، فما كان إلا أن تغير الشعار إلى "حين يطفئون الشمعة، لا يملك المرء إلا أن يلعن الظلام" فكنت أتعجب من روح الإصرار لدى البعض لكن فقط أغبطهم و أرجو لهم المزيد.

لم أقتنع بفكرة المخلص، كما لم تتبين بوضوح وجاهة فكرة إعداد جيل البناء بعد عقود من ظهور جيل الصحوة الذي لم يخرج من أبنائه جيل النصر المنشود بعد

حين أتت اللحظة التي لم أشرف بلحاق بدايتها و على غير العادة في التظاهرات القليلة التي حاولت بفتور المشاركة فيها دون تفاعل أو حماسة، و جدت لدي رغبة شديدة في الصراخ و الهتاف مع الجموع بأعلى صوت و قد ظهر بصيص لم يتوقع أحد كيف سيحدث هذا الزلزال الرهيب و نقطة البداية أخيرا.