Monday, October 22, 2018

يومان من التمشاء في درب سيناء 2

 كانت التدوينة السابقة مقدمة سريعة عن رياضة التمشاء في البرية، وسأحكي هنا أكثر عن تجربتي في رحلة درب سيناء المصغرة.

بعد اكتمال تجمع الفوج وحزم الأمتعة في السابعة من مساء الخميس 11 من مايو الموافق 26 من شعبان، بدأت 6 حافلات في التحرك من أمام قصر البارون بالقاهرة في (فيما تحركت حافلة أو اثنتين بعدها ليلا لمن سيلحق بالمغامرين من شرم الشيخ أو البحر الأحمر). كنا محظوظين في الحافلة الخامسة - رغم تقلب مزاج سائقها السيناوي الكهل وتبرمه سريعا إثر خلاف بسيط مع أحد الركاب حول تشغيل التكييف - فقد تحركنا بسرعة ولم نقف في أي من كمائن التفتيش العديدة - تلك التي قد تجعل رحلة من 5 ساعات إلى مدينة كنويبع تصل إلى 13 ساعة! - واجتزنا النفق أسفل قناة السويس بسلام و كذلك النقطتين الأمنيتين للجيش والشرطة بعده بقليل من التفحص شمل حوارا سريعا من إحدى الأجانب حول تأشيريتها وأخرى مصرية مسيحية وكشف عشوائي لبعض الحقائب استغرق وقت فك الأربطة وإنزال جميع الحقائب وصفها ثم إعادة حزمها أعلى الحافلة مرة أخرى بعد التفتيتش. حسنا كان ذلك بسيطا مقارنة بحالات أخرى يحدث فيها هذا الإجراء بضعة مرات طوال الطريق.

وصلنا الاستراحة الوحيدة الشهيرة على هذ الطريق المسماة "صقر الصحراء" في مدينة "أبو زنيمة" في الحادية عشرة والنصف وقد انتهى معظم الطريق وقاربنا على وصول محطتنا، وقد سبقتنا حافلة أخرى، فيما علمنا أن البقية قد تعطلوا قبيل النفق الذي تم إغلاقه وتوقف المرور فيه لأسباب غير معلومة. انتظرنا بعض الشئ حتى انضم إلينا دليل بدوي ليصطحبنا إلى مخيم المبيت في منطقة "سرابيط الخادم" التي وصلناها في الواحدة والنصف. فور نزولنا أطلق بعض الأجانب صيحات الانبهار والدهشة معبرين عن إعجابهم الشديد واحتفائهم ومعربين عن حماستهم وتأهبهم للمغامرة التي اعتبروها قد بدأت بالفعل.

التعريشة

 تم استقبالنا من البدو وبعض من وصلوا قبلنا ممن تحركوا من شرم الشيخ بترحاب شديد، حيث جلسنا في تعريشة مفروشة بالبسط وقدموا لنا أكواب الشاي الصغيرة ثم عشاء خفيف من الخبز وأطباق الحساء. ومن ثم تأهب الجميع إلى النوم، فيما انتظرت حتى صلاة الفجر، ثم غفوت حتى ما إن شرعت في الاستغراق في النوم أقلقني أصوات وصول الأفواج المتأخرة من الرحلة تباعا، ثم غلبني النعاس مرة أخرى حتى أيقظتني حرارة شمس الصباح، حيث فضلت النوم في الهواء الطلق خارج الخيمة.

المخيم من الخارج

خيام المبيت

قبل ذلك، في ليلة الوصول، كان أحد مشايخ القبائل قد ألقى كلمة ترحيب بسيطة أثناء تناولنا للعشاء، ذكر فيها نبذة مختصرة تاريخ المنطقة وعن سيناء عموما، والتي كانت تسمى بأرض القمر، لأنه يظهر فيها بشكل أكبر. ثم سميت بأرض الفيروز لما كان من تنقيب الفراعنة عن هذا الحجر الكريم فيها ومازال بها بعض آثارهم حتى الآن. ثم حكى عن حلم طازج كان قد رآه للتو حين غفا قليلا في التاسعة مساءا قبل وصولنا، حيث رأى أنه هو وزميل له كانا في تلك المنطقة الأثرية ووجدا أحجارا من الماس البيضاء النقية اللامعة بكميات كبيرة جدا، وهما يأخذان منها، مما فسره على أنه استبشار للخير بقدومنا :)

في الصباح بعد أن استيقظ الجميع وارتاح قليلا من وصل متأخرا، كان الإفطار جاهزا وقد شارك في إعداده شباب قبيلة العليقات المضيفة. بعدها بدأ الجميع في التأهب للرحلة بحزم الأمتعة الخفيفة وزجاجات المياه وارتداء الملابس الملائمة للجو والشمس. قبيل التحرك ألقى الشيخ مسلّم كلمة، وهو مرشد سياحي مثقف من قبيلة الترابين يجيد عدة لغات ويتفاعل مع الأجانب بسهولة، كما يتحدث معنا باللكنة القاهرية بسلاسة، فلا نجد صعوبة في فهمه مثلما يحدث أحيانا مع بعض البدو الآخرين. رحب بنا في حديثه وأعطى مقدمة سريعة عن مسارنا خلال اليومين، ثم ترك الكلمة لشيخ قبيلة العليقات صاحبة أرض نقطة الانطلاق والمنضمة حديثا للمسار بعد توسعه ليضم 8 بدلا من 3 قبائل فقط.


فلتبدأ المغامرة

قبل مائة عام أو أكثر، حين لم تكن وسائل النقل وخطوط التجارة قد تطورت بعد، كانت سيناء تشكل عصبا هاما للترحال والتجارة يربط بريا بين قارتين ويمر به العديد من القوافل وأفواج الحج سواء إلى مكة أو القدس. فكان هذا كله يشكل حركة دائمة وازدهارا لأهل سيناء وعاملا مشتركا لتعاون القبائل فيما بينهم لتيسير وخدمة هؤلاء الوفود. تغير هذا كثيرا خلال قرن، مما أضر بالحالة الاقتصادية لأهل سيناء، وأتاح عودة بعض الخلافات والنزاعات بين القبائل على الموارد المحدودة، لم يكن في منأى منها سوى القليل من المتاخمين للسواحل التي تعيش على السياحة.

لذا تعد مبادرة درب سيناء التي بدأت منذ عامين بتعاون ثلاث قبائل فقط وهم الترابين ومزينة وجبالية، ثم انضم لهم خمس آخرون وهم العليقات والصوالحة وأولاد سعيد والجرارشة والحماضة (مع قرب انتهاء التفاوض مع قبيلتين أخرييتين للانضمام وهما بني واصل وآخرى لا أذكر اسمها)، تعد ليست مجرد مبادرة سياحية لتنشيط رياضة التمشاء فقط، بل تتعدى أكثر من ذلك بكثير لما لها من تأثير يتعدى المردود الاقتصادي على أهل سيناء ليشمل الأثر المجتمعي الكبير في عودة تعاون القبائل وتضافرهم فيما بينهم في خدمة هدف مشترك يعيد الروابط بينهم من جديد. وهو إنجاز كبير يستحق الاحتفاء به بمفرده مثلما تم الاحتفال به في نهاية الليلة الثانية من الرحلة.

بدأنا التحرك من نقطة انطلاق المسار بتوسعه الجديد من سرابيط الخادم في صحبة عدد من الأدلة في مقدمة ومؤخرة الفوج الكبير مع عدد قليل من الجمال لحمل الزاد، فيما كان يتناوب كل من الشيخ مسلّم والشيخ فرج الشرح والحكي أثناء المسير، بينما تلتمع عيون السائرين عشقا للصحراء وتسري في أوصالهم طاقة تحركهم حتى ليكادوا يسبقون المنظمين.


أثناء صعود جبل سرابيط

قليل من احتاج استعمل عصا الـ hiking


معبد حتحور كان أول محطاتنا حيث يقع أعلى جبل سرابيط الذي يرتفع حوالي 250 متر بميل معقول غير متعب في الصعود. ويعد هذا الأثر الفرعوني الوحيد الباقي هنا الذي يثبت وصول قدماء المصريين إلى سيناء وعدم تركزهم حول الوادي فقط.
شواهد عليها نقوش فرعونية من عصور مختلفة في معبد حتحور

من حسن حظنا أن تنظيم الرحلة راعى كل التفاصيل بإتقان فلم يتم الاكتفاء باصطحابنا بأدلة البدو الخبراء في الدروب فقط، ولكن كان معنا أيضا الصديق مصطفى الخبير الجيولوجي المحنك والمغامر العتيد (وهو أحد مؤسسي المبادرة) الذي يستطيع أن يشرح لك بسلاسة تركيب وتفسير مختلف التكوينات الصخرية التي نقابلها وكيفية تشكلها وطبيعة ألوانها ليمكنك من تمييزها بسهولة. كما كان بصحبتنا أحد المرشدين المتميزين ومدير المنطقة من وزارة السياحة والآثار الملم بالعديد من التفاصيل التاريخية الدقيقة نقلها لنا ببساطة جعلتنا نعيش الأجواء حقا.
قبو صغير في جزء من المعبد

ولا يوجد بداخله شيء

كان مما حكى لنا أن سرابيط تعني عند السيناوية الصخرة الواقفة، كما هو حال تلك الهضبة المرتفعة. وتم اكتشاف تلك المنطقة والآثار بها من قبل الإنجليز أثناء تنقيبهم عن المعادن، وقد مهدوا أحد الطرق المؤدية لأعلى الهضبة وسمي بطريق الخواجة (إلى جانب طريق العير غير الممهد من الجهة الأخرى لكنه أسهل في النزول، ووادي خصيف)، ولكنهم مع الأسف أتلفوا ودمروا عدة آثار أخرى في "وادي المغارة" عند استخدام إحدي شركاتهم الديناميت لتفجير المنطقة لتسريع عمليات التنقيب (أو النهب)! وإلى جانب المعبد يوجد عدة مناجم قديمة كان الفراعنة يقوم بتعدين الفيروز منها، حاولنا دخول أحدها، حيث كان يشبه المغارة المعتمة بمدخل ضيق منخفض تنحني له كي تستطيع المرور بينما ينتابك شعور خاطف بالرهبة تلجأ فوره لكشاف الهاتف المحمول كي تتلمس طريقك القصير بالداخل وأنت تنتظر أن تصيح مثل علي بابا: "ذهب، مرجان، ياقوت، أحمدك يا رب!" لتفاجأ بخواء المكان على عروشه، فتستدير آيبا بسرعة قبل أن تنغلق عليك بوابة المغارة فجأة!
مدخل المعارة

لا يوجد كنز بالداخل 😁

مرت عدة أسر فرعونية على ذلك المعبد الوحيد المتبقي، ولكل منهم آثاره، فيما حمل اسم الإلهة حتحور (أو حوت حير) رمز الخصب والنماء، والتي كان من ألقابها: نبت مفقاط، أي سيدة التركواز. كما أن لها معبدا آخر في جنوب فلسطين أيضا، وهو يعد واحدا من 5 معابد فقط من المرحلة المتوسطة، أي حوالي 900 عام قبل الميلاد. يحتوي المعبد على مسلات صغيرة وعليها نقوش لملوك عدة أسر مثل أمنمحات الأول وسنوسرت الأول وأمنمحات الثاني وغيرهم حتى رمسيس السادس. فيما يوجد بوادي خصيف بقايا آثار ترجع لحضارة نقادة (التي كانت في قنا) قبل 2000 عام قبل الميلاد. قبل القليل من العقود كانت هناك مبادرة لترميم المعبد استغرقت 8 سنوات، لكنه مازال يعاني من الإهمال وعدم الاهتمام المطلوب حتى الآن، حتى لتجد شروخا واضحة وكسور حديثة في تلك الآثار كان يمكن المحافظة عليها!

بعد التجول والتصوير في جنبات المعبد الصغير وقبل التحرك نزولا من أعلى الهضبة، اطلعنا على الأفق من حولنا لنرى عدة معالم جغرافية وأودية تحيط بنا مثل هضبة التيه في الشمال وهي تصل بعرض سيناء من المنتصف ما بين خليجي العقبة والسويس وتفصل بين شمالها وجنوبها، والتي يعتقد أنها المنطقة التي أصاب التيه فيها بني إسرائيل 40 عاما. بالإضافة إلى جبل أم جرار التابع لمنطقة قبيلة الصوالحة، ووادي خريج، ووادي النصب الذي تقع به بئر ماء عذب وكان به عيون متدفقة ونبع سابقا، وأخيرا وادي الصحو الممتد إلى فلسطين.

أخذنا في النزول من الجهة الأخرى لنكمل المسير في الدرب المحدد وقد بدأت الشمس في الاشتداد قليلا، بينما كنا نصادف بين الحين والآخر أشجارا متفرقة مخضرة تدعوك للتسبيح وذكر الله رغم صلابة الأرض ووعورة التربة التي تجد الجذور بينها متنفسا، بالإضافة إلى غياب الماء وانعدام الأمطار في ذلك الوقت. من أنواع تلك النباتات التي قابلناها كان الحنظل، وهو نبات قصير له ثمرة كروية تشبه البرتقالة وذات فصوص أيضا، ولكنها جافة من الداخل وشديدة المرارة حتى على الجلد، ويشتهر عنها مثل "شربت المر من كيعانه"، وينصح بها لعلاج الركبة بطريقة معينة ولحالات خاصة، وكثيرا ما تباع عند العطارين.

الشيخ ناصر يحكي عن عشبة في يده أعطاني منها وكانت لها مذاق طيب عندما يتم مصها كالقصب أو السواك ولا أذكر اسمها

نبتة بصل جبلي صغيرة

من أنواع النباتات التي مررنا بها أيضا: العليجان ويسمى أيضا الزجوح (أو الزجول بلهجة قبيلة أخرى)، وهو مما ترعى عليه الإبل و الأغنام. كما رأينا عشبة كف مريم المميزة بأزهارها والتي لها فوائد عدة حيث يتم استخدامها بعد أن تنقع في الماء لفترة معينة، كما تتواجد في بعض العطارات أيضا. كما كان هناك نبتة العجرم والتي تستخدم في صنع الصابون، وقد قام أحد الأدلة البدو بقطع بعضها وحكها بصخرة في إناء حتى عصر منها المستخلص الطبيعي الذي يشبه الصابون السائل الذي استخرجه فوريا دون عمليات صناعة معقدة، وله أثر سريع في التنظيف بالإضافة لرائحته العطرية. وأخيرا قابلتنا بعض أشجار الأكاسيا المتناثرة هنا وهناك، والتي حكى البدو أنها حديثة هنا ولم تكن سيناء موطنها الأصلي، حيث جاءت براعمها مع أقدام الجمال القادمة من أفريقيا عبر قوافل مختلفة مرت هنا منذ 500 عام.

عنزة صغيرة ترعى وحدها

تحضير الصابون

كان للأدلة والمنظمين بعض التعليمات الإرشادية أثناء السير، مثل أن نشرب المياه باستمرار حتى قبل أن نشعر بالعطش، رغم هذا لم أستهلك حتى نصف الكمية من اللترات التي طلبوا منا حملها معنا وأثقلت ظهورنا بعض الشيء. ومثل ألا نرفع حجرا من مكانه أو نحرك أيدينا بين النباتات تجنبا لاستثارة كائنات حية ربما تكون مختبئة كالعقارب والثعابين. وقد أرانا أحدهم آثار ثعبان قد مر على الرمال منذ فترة وعرفنا تقديره لنوعه وطوله من طريقة التواء آثاره وطمأننا من عدم سميته.

ما زال الطريق طويلا

آثار زحف ثعبان صغير على الرمال

بعيد الظهيرة ومع اشتداد الحرارة، مررنا بفجوة في جبل تشبه الكهف الصغير، وكانت محطة استراحة طويلة في الظل حتى يذهب القيظ. كانت الجمال قد سبقتنا وتم فرش الأرض بالبسط وبدأ  شباب البدو في التجهيز لإعداد طعام الغداء. تناولنا الوجبة المكونة من الطبق الرئيسي المشهور لديهم من خليط الأرز مع العدس مع تنوع كبير من السلاطات، حتى التي تستغرق وقتا في إعدادها كالبابا غنوج الذي يتطلب شواء الباذنجان وإعداده جيدا، فضلا عن الخضروات، ثم الختام بفاكهة أيضا وبعدها الشاي المميز بالحبق. كان هذا كثير ومجهود أكثر من رائع فوق المتوقع ولكنهم كانوا يبذلونه بحفاوة وترحاب شديد ولا يدعونك حتى تحاول أن تساعدهم. استعددنا للتحرك قبيل العصر وقد خفّت الشمس بعد أن أكملت الجمال تناول بقايا الطعام المتبقي.

استراحة الظهيرة

شواء الباذنجان أثناء تحضير الطعام

الجمل يتناول الغداء

أكملنا السير حتى وصلنا محطة الليلة الأولى قبل غروب الشمس بعد نزولنا منطقة منحدرة بعض الشيئ تؤدي إلى سهل منبسط به المخيم الذي سنبيت فيه في تلك الليلة. قبلها كنا قد مررنا بعدة صخور وتباب صغيرة تحمل نقوشا لآثار نبطية، وعليها كتابات معينة فسرها لنا المرشد السياحي في حينها. في الليل كانت هناك وجبة العشاء ثم الاحتفال بتدشين هذه المرحلة من درب سيناء بتعاون 8 قبائل حضر ممثل عن كل منها وألقى كلمة قصيرة تشيد بالمبادرة وترحب بالضيوف وتثني على القبائل الأخرى، إلا أنه أحزنني فقط إشارة أحدهم وسط كلمته واحتفائه بالإنجاز، أنهم ليسوا كإخوانهم في الشمال، في تلميح مليء بالأسى على حال أهلنا في شمال سيناء وما يعانوه من مآسي بين مطرقة الدولة وسندان الجماعات وفوضى التنظيمات فيما يشبه الحصار الذي لا يستطيعون معه العيش في حياة طبيعية.

صخرة منقوش عليها رسوم وكتابة نبطية

لعبت أضواء الكشافات والشموع دورا في إضفاء جو البهجة على الاحتفالية، وكانت المفاجأة طبق الحلويات من كرات الكيك بالشيكولاتة الذي تم توزيعه على الحضور أثناء الكلمة، وكان مذاقه رائعا بحق، ولا أدري حقيقة إن كان من صنع أيدي البدو، أم أن أحد المنظمين قد أتى به معه من القاهرة. كان الختام بعدها بحفل موسيقي أحيته فرقة بدوية بخليط من الأغاني المختلفة العادية والبدوية حيث شارك بعض الحضور بالرقص معهم، فيما أخذت بالابتعاد عن الصخب قليلا وإن لم يكن مزعجا.

ممثلو القبائل وصورة عقب كلمة الاحتفال

إبان منتصف الليل نام البعض سريعا وكان قد بلغ به التعب طوال اليوم مبلغه، فيما ابتعدت بمسافة بعيدا عن همهمات الصوت وبقايا الضوء في المخيم، برفقة صديقي الجديد الجميل محمد الذي شاركني هواية التأمل في السماء، وخاصة في تلك الليلة قرب نهاية الشهر العربي حيث تظهر النجوم على صفحة السماء بوضوح كما يبدو جزءا من ذراع المجرة لا يمكن ملاحظته ملطقا في ضوضاء وتلوث المدينة. تجاذبنا أطراف الحديث، كما تعلمت منه تحديد اتجاه القبلة بتحديد كوكب المشترى المميز بسطوعه والذي يكون جهة الشرق في ذلك الوقت من العام، مثلما تعلمت في الصباح من الشيخ ناصر تحديد القبلة بعد الظهيرة في تلك المنطقة بأن أجعل اتجاه شعاع الشمس ناحية حاجبي الأيمن، ومن ثم يكون وجهي ينظر تجاه القبلة.
حلوى الاحتفال

عدنا للنوم بعدها، وكنت قد ارتديت جلبابا أحضرته معي تماشيا مع الجو، فيما ارتاب بعض الأصدقاء ظنا أن أحد دخيل بينهم قبل أن يوقد معتز الكشاف ويفاجأ بي. فيما حدث موقف آخر عند استيقاظي للفجر وفزع أحدهم من أنه ربما هناك ثعلب يمر بجانبه وهو نائم. بينما قلق الجميع بعدها عندما أصاب أحدهم بعض الإعياء وظلت أخرى تبحث له عن طبيب بيننا ثم نقاش مطول مع صيدلانية أعطته دواءا من غير المفترض له تناوله.

مخيم مبيت الليلة الثانية يلوح في الأفق بينما يستريح البعض بعد عناء سير اليوم الأول

تناولنا الإفطار صباح اليوم التالي، ثم شربنا قهوة طازجة تم تحميصها وإعدادها للتو أمامنا قبل أن نستعد لإكمال المسير. كان المسار في اليوم الثاني أيسر  واستغرقنا فيه وقتا أقل بكثير، فرغم أن المسافة تقريبا متساوية فهي حوالي 12 كيلو متر لكل يوم، إلا أن اليوم الأول كان به مرتفعات ومناطق وعرة أكثر، بالإضافة للانتظار أكثر من مرة سواء في المناطق الأثرية أو عند راحة الظهيرة، أما اليوم الثاني فكان الطريق أبسط ولم نحتج إلى راحة، بل وصلنا مبكرا لتناول الغداء قبل الاستعداد للرحيل. كان بين هوفلر، والذي بدأنا نتعرف عليه فقط بنهاية اليوم الأول، يمر بيننا ليسألنا واحدا واحدا عن رأيه في التجربة وينصت لكل تعليق باهتمام شديد. بين هو المصمم الرئيسي للمسار وصاحب فكرة المبادرة والتي ظل يعمل عليها مع كريستينا ومصطفى وبقية الفريق من البدو حتى صارت بهذا الشكل. كان يسير بيننا ملثما كالبدوي حتى أطلق عليه أحدهم لورانس العرب ولم نعرفه إلا حين أشار إليه الشيخ مسلّم في حديثه.

تحميص البن وإعداد القهوة

قبل نهاية اليوم الثاني، تجمعنا في جميعا في ساحة منبسطة ممتدة على مدى البصر وانتظرنا من كان متأخرا في الخلف، وكانت إحداهن قد تعبت أثناء الطريق فأكملت الجزء المتبقي راكبة الجمل. حتى إذا وصل الجميع، قمنا بتشكيل دائرة بشرية كبيرة في قلب الصحراء من محبي سيناء.

قرابة المائة مغامر يدا بيد في حب سيناء

انتهت الرحلة وقد طبعت في الوجدان ذكرى لا تنسى، قابلت فيها العديد من المغامرين ومحبي الصحراء وتعرفت على بعضهم فضلا عمن كنت أعرفهم، بدءا من سيد سائق سيارة الدفع الرباعي البدوي الذي اصطحبنا من قبل في رحلة وادي عراضة والذي ما إن رآني حتى لقيني بترحاب شديد عارضا أي خدمة أو مساعدة قد أحتاجها، فانتهزت الفرصة لأسأله عن كيفية شحن الهاتف، قبل أن يعيرني أحدهم شاحنه فيما بعد. كما قابلت أبو يوسف الدليل البدوي الذي اصطحبنا في نفس الرحلة والتي كان من رفاقها أيضا معتز ومصطفى ورحاب وآن وريم التي تشاركني، بل تنافسني، في المبالغة في وضع الملح على الطعام. تعرفت على محمد رفيقي في ليلة التأمل في السماء، وجوزفين السكندرية الكفيفة الرائعة التي لم تصطحب معها أحدا في سفرها لوحدها. وكانت من رهافة الحس أن تلاحظ أن بيننا أحد الأجانب لتحول الحديث إلى الإنجليزية، حين كنت أتحدث معها عن مشروع العصا البيضاء الذي أشارك فيه، حتى لا يشعر الأجنبي بعدم إشراكه في الحوار. كان هناك من السياح والأجانب جنسيات مختلفة، فبالإضافة لبين الإنجليزي وكريستينا الإيطالية (وماريو أيضا لكنها لم تكن متواجدة) من المنظمين، فكان هناك ذلك الأمريكي الذي كان عائدا للتو من مغامرة أخرى في إثيوبيا، والفرنسيتان اللتان وصلتا من المطار إلى الرحلة مباشرة ولم يمكثا في القاهرة كثيرا، والفلبينية التي تعمل على رعاية الأطفال لدى أسرة مصرية وكانت في أشد الاستمتاع بهذه التجربة في إجازتها، لأنها معتادة على رؤية الجبال الخضراء فقط في بلدها! كما قابلت من الشخصيات العامة التي صاحبتنا في الرحلة الأستاذ نجاد البرعي ودكتورة منى البرنس، لتذوب ببساطة حواجز مصطعنة يضفيها الإعلام حول أي شخصية عامة بمواقف حدية لا ينبغي أن تكون كذلك، وهو ما يغيره التعامل الإنساني البسيط، أيا كانت اتفاقك أو اختلافك مع كل شخصية.

بين يطمئن على الضيوف

بالإضافة لكل هذه الأسماء والشخصيات من ذكرته ومن لم أذكره، فلا يمكن تفويت المضيفين الحقيقيين لهذا الحدث، وهم الشيخ مسلّم من الترابين، والشيخ فرج والشيخ ناصر من الجبالية، والشيخ فراج والشيخ مجد أبو فالح من المزينة، والشيخ مجد أبو سالم من الصوالحة، والشيخ إبراهيم ياسر أبو عبيد من صحو حمادة، والشيخ سالم من أولاد سعيد، والشيخ حسين أبو مصري من الجرارشة، والشيخ ربيع أبو بركات من العليقات، و أخيرا الشيخ سليم من البدارة في وسط سيناء والذي لقيناه مصادفة قبل نهاية اليوم الثاني، حيث أنه ينزل مرتين في الشهر للتزود لقبيلته التي تعاني من فقر الموارد، وكانت المصادفة السعيدة له أن لقي هذا الحشد جميعا وأصر الجميع على تقديم هدية له زادت من سعادته.

تأمل التكوينات الصخرية متعة وحدها

أخيرا، لا أستطيع أن أوفي الجميع حقه من الشكر على هذه المبادرة وذلك التجمع الرائع، وآمل أن يأتي اليوم الذي أخوض في تلك التجربة كاملة عبر كل بقعة في هذا الدرب.

(تغطيات إعلامية عن الحدث من بي بي سي و عربي بوست).

Friday, May 18, 2018

يومان من التمشاء في درب سيناء 1

 المشي في البرية، أو ما يعرف برياضة الهايكنج hiking، من الرياضات التي لا تلقى اهتماما كبيرا في الثقافة العربية المعاصرة، رغم جذورها الأصيلة في عمق التاريخ، وإن كانت بدأت تلقى بعض الزخم بين بعض أوساط المغامرين والمهتمين مؤخرا الذين يسعون بجد حثيث لنشر هذا النوع من السياحة في الطبيعة عبر عدة مبادرات واعدة.

من بين هذه المبادرات، تعرفت مؤخرا على مجموعة درب سيناء التي بدأت قبل سنوات قليلة واستطاعت في وقت قصير أن تخطط لأكبر مسار للمشي البري في المنطقة يغطي كافة مناطق جنوب سيناء ويمر عبر مناطق الثمانية قبائل الرئيسية هناك، بمسافة تصل إلى 550 كيلو متر يستغرق السير فيها كاملة 42 يوما.

صباح اليوم الأول في مخيم سرابيط الخادم

احتفالا بهذا المسار الجديد، الذي كان منذ عامين 220 كيلو عبر مناطق 3 قبائل فقط في 12 يوم، نظمت المبادرة رحلة مصغرة لمدة يومين تغطي جزءا صغيرا من هذا المسار، ويتعرف فيه الجميع على المبادرة والقبائل البدوية الجديدة المنضمة للتنظيم، وقد كنت محظوظا أن أكون أحد هؤلاء المشاركين من بين حوالي 100 مغامر آخر من جنسيات مختلفة يعشقون المشي في البرية (أو التمشاء اختصارا، وليس المشي الجبلبي كما يحاول البعض ترجمتها، فالهايكنج لا يقتصر على الجبال فقط).

جانب من الفوج مع بدو القبائل الثمانية قبل الرحيل

ليست هذه المرة الأولى التي أخوض فيها تجربة كهذه، فقد قمت بالتجوال في محمية وادي دجلة عدة مرات من قبل، كما سرت قليلا في بعض الوديان والجبال والأخاديد القريبة من مدينتي نويبع ودهب في ثلاث سفريات قصيرة، بالإضافة لصعود جبلي النور وثور بالمدينة المنورة في سفرتي الحجازية الثانية، وقبلهم كانت زيارات الصحراء الغربية في كل من الفيوم وسيوة والصحراء البيضاء قرب واحة الفرافرة بالوادي الجديد. في كل منهم تستقبل الطبيعة وتستقبلك كما هي بترحيبها وحفاوتها، كما بقسوتها وشدتها. فتفتح لك ذراعيها برحابة أفقها اللامتناهي، وتضيء لك الليالي بمصابيح نجومها الساطعة وتوهج مجرتها المتلألئلة، كما يشتد عليك قيظ هجيرها، وتزل أقدامك تحت وعورة صخورها.

لكل تجربة من هؤلاء مذاق مختلف، ولكن يجمعهم أنك تنفصل عن الحياة المدنية كلية بكل مشتتاتها وملهياتها، فلا اتصالات ولا شبكة موبايل ولا إنترنت؛ كما أنه لا زحام ولا تلوث ولا ضجيج. فقط نقاء بكر صافي يتيح لك التوحد مع الطبيعة والاستغراق في التأمل وقراءة كتاب الله المنظور، امتثالا لأمره "قل سيروا في الأرض"، وهي عبادة لا تقل أهمية عن تلاوة كتاب الله المسطور. فالتأمل في الكون والتفكر والتدبر في الخلوة والخلاء سنة الأنبياء من قبل، الذين ما من أحد منهم إلا وقد عمل بالرعي، ومارس السفر والترحال، أو انعزل عن الناس بعض الشيء في غار أو صحراء أو أعالي الجبال ليصفو ذهنه ويسبح في ملكوت الله كي يتلقى وحيه.

الصورة من رحلة سابقة في مخيم عين الحضرة قرب نويبع للمصور أحمد صبري من فريق Dusk فيما كانت النجوم هذه المرة أكثر سطوعا قرب نهاية الشهر العربي، لكن لم أستطع تصويرها بإمكانياتي المتواضعة بالطبع.

كما أنه مما يجمع هواة التمشاء على اختلاف ثقافاتهم هو عشقهم الفطري للطبيعة، وحرصهم الشديد عليها في كل مسار يقطعونه، وحفاظهم على عدم ترك أي أثر يضر بالبيئة الطبيعية وفطرتها، وهي ثقافة نفتقدها كثيرا في أماكن سياحية أخرى - كالشواطئ - فلا تكاد تخلو من ملوثات ومخلفات بلاستيكية وتشويه غير مسئول للطبيعة. فيما يمتاز هواة التمشاء بحس مرهف ووعي بيئي عال، وكان هذا مميزا جدا في تلك الرحلة تحديدا، حيث أن عدد الفوج بها كان كبيرا جدا مقارنة بأي رحلة أخرى، ورغم ذلك سعدت بنا الطبيعة التي تركها الجميع كما كانت، بل ربما أفضل أيضا، فكان الحرص على تنظيف أي آثار بعد كل تجمع، فيما كان يسقي بعضهم شجيرات هنا وهناك مما تبقى معه من مياه كان يحملها للشرب.

كانت هذه مقدمة سريعة، وسأحكي في التدوينة القادمة المزيد عن الرحلة باستفاضة أكثر.