Sunday, November 12, 2023

أحياء بتراثنا


من المؤكد أنك تعرف أثناء متابعتك لأحداث غزة الأن أنها ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل مشافي وعربات إسعاف بهذا الشكل الهمجي الممنهج، فليس جديد عليهم هذا المستوى من الخسة؛ لكن ربما لا تعرف أنه منذ 20 عاما عقب مجزرة مخيم جنين التي حدثت ضمن عمليات الدرع الواقي في 2002 بعد الانتفاضة الثانية، قام فنانون فلسطينيون بمجع بقايا عربات الإسعاف المدمرة حينها وصنعوا منها عملا فنيا في شكل حصان حديدي تم وضعه في ميدان رئيسي بالمخيم وصار اسمه دوار الحصان كرمز وشاهد على بشاعة الاحتلال. ظل هذا الرمز شاهدا حتى أسبوع مضى حين قام الاحتلال باجتباح المخيم ثانية وكان من أوائل ما استهدفه هو هذا الحصان دة أثناء حملاته العدوانية في الضفة.



يعد هذا مجرد مثال واحد من مئات وآلاف الأمثلة على أن الحرب اللي يخوضها العدو ضدنا ليست فقط عسكرية ولا سياسية ولا إعلامية ولكن ثقافية أيضا، وأي شيء له دلالة رمزية يحرص دائما على إما محوه أو السطو عليه وسرقته ونسبته لنفسه. هذا نذر يسير مما تعلمته في ورشة "احكينا يا فلسطين" اللي نظمتها مدرسة خزانة حول كيفية توثيق التراث غير المادي بالتعاون مع أستاذة أمال الأغا ومهندسة عالية عكاشة من الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية وبإشراف أستاذة أميرة النشوقاتي من مؤسسة الأهرام.


هذا الحصان لا يعد أثرا تاريخيا منذ مئات السنين، فقيمته ليست بعمره بقدر ما هي من دلالته وما يعبر عنه، وهذا ما يسمى بالتراث الحي، وهو الأمر الذي يحاول الفلسطينيين أن يحافظوا عليه ويتوارثوه ويتمسكوا به ربما أكتر من التراث المادي الذي تدمره الحروب، وكل محاولة لتوثيقه وإثباته والتحدث عنه لا تقل أهمية في النضال عن أي معركة أخرى في كل مجال وساحة.


شمل الحوار في الورشة محاور عدة أهمها، الأزياء و التطريز ليس فقط كهوية ورمز لكل منطقة في فلسطين، ولكن أيضا كأداة للنضال مثلما كانت تلجأ النساء لتطوير طرز جديدة فيها علم فلسطين كمقاومة صامتة حينما كان يقوم العدو كان بحظر مجرد رفع العلم في للمجال العام. وتطرق النقاش إلى الحطة الفلسطينية، والتي تختلف عن التنويعات الأخرى من الغترة والشماغ والشال البدوي من حيث حجمها وشكل نقشتها، وأنه في الأغلب كان هذا النقش مستوحى من شبكة الصيد التي يستخدمها أهالي الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، لكنه صار له بعدا رمزيا بعد ذلك في إشارة إلى السلك الشائك الذي يحاصر المحتل به الشعب


المحور الثاني كان عن المعمار وارتباط الفلسطيني الكبير بداره وحيه وجيرانه لدرجة أنه عند كل تهجير اضطراري يحاولون المحافظة على نفس النسيج المجتمعي وتراتب جيرة الأسر والعائلات مع بعضهم البعض مثلما كانوا يسكنون في حيهم الأصلي من قبل. كما أنهم بيبنون المخيمات بأبسط الإمكانيات، وليس الحجر كالمعتاد، في تأكيد على أنه دار مؤقت سيغادرونه يوما ليبنوا دورهم الأصلية من الحجر مرة أخرى حينما يتحقق حلم العودة يتحقق إن عاجلا أم أجلا مع الأجيال الأصغر.

تحدثنا أيضا عن الاكلات الشعبية وقصة المقلوبة التي يرجع تاريخ تسميتها إلى لحظة ستقبال صلاح الدين ساعة عند فتح القدس، وظلت رمزيتها مستمرة من بعدها إلى الآن لدرجة إن الصهاينة يعدون أكلها خطر على أمنهم!

وتطرق الحديث عن الصناعات المرتبطة بأشهر شجرة فلسطينية، الزيتونة المباركة، التي يستخدم زيتها في كل الأكلات، وثمرتها تدق وتخلل، وخشبها يستخدم كتذكارات ويدخل في صناعات مختلفة. بالإضافة إلى صناعة الصابون النابلسي الأصلي ومعه الجبن النابلسي التي ربما ساهم السوريون في انتشارها في مصر مع الكنافة المميزة فلسطينية الأصل.



ولشدة رمزية الزيتون وارتباط الفلسطيني به - كما تعبر عنه صورة الحاجة محفوظة الشهيرة - كان يحرص الاحتلال على قطع اشجاره التي تبلغ أعمارها أضعاف أضعاف عمر الكيان اصلا.


وكأحد أهم محاور التراث غير المادي تحدثنا عن  الحكي الشعبي والدبكة والأغاني التي بتوارثها الأجيال وتضيف عليها، والتي يعد من أقدمها وأشهرها قصتي ظريف الطول و دلعونا، التي كانت كل واحدة منهما حكاية مستقلة منفصلة ثم اندمجوا في الخيال الشعبي مع الوقت.

تقول الأساطير أن عناة إلهة الخصب والحب بنت الإله إيل عند الكنعانيين كان يتوسل إليها العشاق، أو أنها اسم بنت اصلا يريد حبيبها الوصول إليها "دلوني على عناة" التي ستحرف إلى دلعونا ويصير هذا الحبيب هو ظريف الطول فيما بعد العونا راحوا الحبايب وما ودعونا. أما ظريف الطول فهو شاب شهم وسيم متوسط الطول ترك مطاردة الفتيات له ووهب حبه لأرض فلسطين و كان يقاوم الإنجليز وقت الانتداب البريطاني واختفي بعد ما هجم العدو على القرية ولم يعثروا عليه بين الأموات ولا الأحياء، ثم صار شبحه يظهر في كل مكان فيه مقاومة حتى ثورة 1936 وما بعدها.

حاوت فرق كثيرة حديثة إعادة إنتاج هذا التراث الشعبي، أبرزها فرقة العاشقين وفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية وكورال عباد الشمس.


كانت الورشة ثرية جدا وسرقنا الوقت فلم نغطي محاور أخرى من التراث الحي، هذا غير المعلومات والأحداث والسياقات المتعددة التي تطرقنا إليها خلال النقاش ورموز خالدة تعرفنا عليها، مثل فاطمة بروناي التي تعد واحدة من أبرز وأوائل رموز المقاومة النسوية المسلحة - بعد زهرة الأقحوان - والمبهر أن فاطمة فلسطينية من أصل نيجيري حيث استفرت عائلتها الإفريقية في فلسطين أثناء رجوعهم من الحجاز في رحلة الحج ثم مروا بالقدس وما لبثوا أن قرروا الاستقرار بها، فعاشت وانتمت للمكان ونفذت عمليات نوعية تعتبر الأولى من نوعها واعتقلت فترة كبيرة في سجون الاحتلال ومنحتها السلطة الفلسطينية رتبة عقيد.


في النهاية نستطيع القول أن مجالات المقاومة كتيرة والنضال ضد الاحتلال سيظل مستمرا طالما جرت في أجسادنا أنفاسنا وظت فينا الروح، أو حتى بعد رحيلنا طالما أبقينا شيئا من أرواحنا لمن بعدنا يظل يتنفس في التراث الحي.

No comments:

Post a Comment