Sunday, July 26, 2020

عن نعمة العبادة إذا استطعت إليها سبيلا

حتى العام الماضي، كانت فرصتك أن تكون من المحظوظين الذين ينعم الله عليهم بحج بيته الحرام كل عام أكثر قليلا من واحد في الألف (بافتراض 2 ونصف مليون حاج في العام و2 مليار مسلم)، أما الآن فلن تتجاوز هذه النسبة 5 في المليون، تمثل العشرة آلاف الذين تم اختيارهم بالفعل - هنيئا لهم - من بين مئات الآلاف الذين سمح لهم بالتقدم من سكان الممكلة ومن بين الملايين من خارجها الذين لم يتح لهم أي فرصة بأي ثمن ولا حتى باقتراع عشوائي بسبب الوباء العالمي.

الصورة:

ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها تعطيل أو قصر المشاركين في شعيرة الحج. فعبر التاريخ الإسلامي حرم المسلمون أو فئات منهم من أداء الفريضة لأسباب متعددة.. صحية كما هي الحال الآن، كوباء الكوليرا قبل قرنين من الزمان وحتى الإيبولا قبل أربع سنوات الذي منع حجاج سيراليون وليبريا وغينيا من الفريضة.. أو لأسباب سياسية عبر أحداث مختلفة كهجوم القرامطة على الحرم، أو خلافات سياسية أخرى كما هو الحال الآن أيضا والذي منع مواطني دول إسلامية كإيران وقطر من الحج مؤخرا. وهو ما يعزز أهمية طرح تدويل الإشراف على الحرم الذي تتجدد المطالبة به وآخرهم من الشيخ الددو الشنقيطي، ولكن هذه قضية أخرى.

بخلاف الأحداث الكبرى، فقد رصد التاريخ حالات لكثير من أعلام المسلمين الذي حرموا من تأدية خامس أركان الإسلام، أشهرهم الإمام ابن حزم والكثير من علماء الأندلس وكل أمرائها تقريبا منذ الدخول الثاني للأمويين نظرا لسيطرة خصومهم العباسيين على الحجاز في البداية، ثم لمخاطر الطريق الطويل وقطاع الطرق وسيطرة الصليبيين على الشام بعد ذلك حتى وصلت لدرجة تأثيم من يخاطر برحلة الحج وفق فتاوى لابن رشد والطرطوشي. وحديثا قام الشيخ ابن باز رحمه الله بالحج عن ابن حزم ضمن علماء آخرين أهدى ثواب الحج لهم أمواتا وفاءا لعلمهم وإن كان منهم من حج من قبل.

وإذا انتقلنا من أقصى غرب دولة الإسلام إلى مشرقها، فلا يختلف الأمر كثيرا، فإنه لم يرد عن أحد تقريبا من سلاطين العثمانيين أنه قد حج - ربما سوى قليلين جدا قد حجوا قبل خلافتهم - وذلك نظرا لبعد مقر الحكم الجديد عن قلب العالم الإسلامي أيضا مما يستغرق شهورا يبتعدون فيها مركز الحكم وإدارة أمور الدولة وسط قلاقل متتالية ولسيطرة المماليك على الحجاز في أحيان أخرى. وكان الحال كذلك لكثير من خلفاء العباسيين والمماليك والفاطميين والأيوبيين قبلهم. وقد رصد المقريزي في كتابه "الذهب المسبوك فيمن حج من الخلفاء والملوك" تاريخ ذلك كله فأحصى أنه لم يلتزم بالحج من كل دولة سوى الخلفاء الراشدين ثم 5 من أصل 14 خليفة أموي، ثم تناقص العدد أكثر وأكثر بعد ذلك، وإن كانوا يحرصون على أن يوفد أكثرهم نائبا أو وزيرا يقود بعثة الحج كل عام.

فربما كنت فيما سبق أكثر حظا من كل هؤلاء باستطاعتك أن تحج دون ظروف قاهرة أو أقدار حائلة أو غفلة صارفة، لكنك ربما كنت تسوف وتؤجل لسبب أو لآخر دون أن تجرب حظك وتسعى قبل أن تُمنع حتى من فرصة هذه المحاولة الآن. من كرم الله عليّ أن منحني هذه النعمة بفضله بعد 7 سنوات من المحاولة عبر سبل مختلفة من جمعيات وشركات سياحة وقرعة الحكومة، وكنت أتعجب كثيرا ممن ينصحني بتغيير أولوياتي وعدم الاستعجال وكأن الواحد منا يضمن عمره أو حتى استطاعته لاحقا. وها هو جرثوم صغير يأتي من حيث لا نحتسب فيقلب حياة العالم أجمع ويحرمنا من نعم كنا نظنها متاحة أبدا، ويمنعنا من فرص عبادة كانت متاحة، فلا صلاة جماعة ولا عيد ولا قيام رمضان ولا جمعة ولا حج. وقد كان كل هذا متاحا من قبل للكثير ممن يستطيع. لكن أحيانا لا يشعر المرء بنعم الله إلا بعد أن تسلب منه.

أخيرا بعد حوالي 3 شهور قد عادت نعمة صلاة الجماعة، ولدهشتي وجدت المسجد ممتلئا بنفس العدد أو ربما أكثر من قبل الإيقاف، وكنت أظن أن اعتياد الصلاة في البيت قد يجر الناس أكثر للتكاسل وعدم العودة للمسجد، لكن عودة فرصة الطاعة بعد حرمان كان أقوى ولله الحمد. وكنت أتعجب قبلها أيضا من حرص القائمين على المساجد من المحافظة على شعيرة الأذان وقت كل صلاة، رغم غلق المسجد بعدها وعدم الصلاة، فلا أهمية عملية لها مع سهولة معرفة الناس لتوقيتات الصلاة، لكنه الحرص على تكبد جهد الحفاظ على عبادة الأذان في حد ذاتها التي ظلت متاحة، فلله درهم. وذلك ناهيك عن ظاهرة العديد من النسخ المصغرة من دور الأرقم التي ظهرت وسط الأحياء السكنية لأهالي يجمعون أنفسهم ليؤدون الصلوات والجُمع معا محافظين على الشروط الصحية معوضين بذلك غلق المساجد الذي لم تتحمل قلوبهم المتعلقة بها تقبله.



وقت أن كانت كل العبادات متاحة، لاحظت ظاهرة لدى بعض الأصدقاء تتراوح بين تململهم الشديد من صلاة الجمعة - نظرا لرداءة الخطب والخطباء - وبين من يصليها على مضض متأخرا قدر الإمكان حتى يحلق بالكاد الركعتين، وتصل إلى العزوف الكلي عنها للأسف. لا أدري ما شعورهم الآن وقد حرمنا جميعا تلك الشعيرة كلها، فلا صار بإمكانك محاولة الإصلاح بدلا من الترك، ولا حتى البحث عن مسجد أفضل والاستماع لخطيب مختلف. فيما صديق آخر كان قد كتب ذات مرة فرحا مستمتعا بتجربته لصلاة العيد لأول مرة منذ سنوات كثيرة، فكنت لا أدري هل أهنئه على ذلك أم أشعر تجاهه بالأسى والشفقة على كل تلك السنوات التي حرم نفسه فيها من نعمة مبهجة كصلاة العيد تلك.

أخيرا، لعلك تلك الجائحة تكون تذكرة لنا بنعم كثيرة أخرى حولنا ما زلنا ننعم بها، وعبادت ما زالت باستطاعتنا لم نُحرمها، لعلنا نستزيد منها قبل أن يفوت الأوان!