Friday, May 18, 2018

يومان من التمشاء في درب سيناء 1

 المشي في البرية، أو ما يعرف برياضة الهايكنج hiking، من الرياضات التي لا تلقى اهتماما كبيرا في الثقافة العربية المعاصرة، رغم جذورها الأصيلة في عمق التاريخ، وإن كانت بدأت تلقى بعض الزخم بين بعض أوساط المغامرين والمهتمين مؤخرا الذين يسعون بجد حثيث لنشر هذا النوع من السياحة في الطبيعة عبر عدة مبادرات واعدة.

من بين هذه المبادرات، تعرفت مؤخرا على مجموعة درب سيناء التي بدأت قبل سنوات قليلة واستطاعت في وقت قصير أن تخطط لأكبر مسار للمشي البري في المنطقة يغطي كافة مناطق جنوب سيناء ويمر عبر مناطق الثمانية قبائل الرئيسية هناك، بمسافة تصل إلى 550 كيلو متر يستغرق السير فيها كاملة 42 يوما.

صباح اليوم الأول في مخيم سرابيط الخادم

احتفالا بهذا المسار الجديد، الذي كان منذ عامين 220 كيلو عبر مناطق 3 قبائل فقط في 12 يوم، نظمت المبادرة رحلة مصغرة لمدة يومين تغطي جزءا صغيرا من هذا المسار، ويتعرف فيه الجميع على المبادرة والقبائل البدوية الجديدة المنضمة للتنظيم، وقد كنت محظوظا أن أكون أحد هؤلاء المشاركين من بين حوالي 100 مغامر آخر من جنسيات مختلفة يعشقون المشي في البرية (أو التمشاء اختصارا، وليس المشي الجبلبي كما يحاول البعض ترجمتها، فالهايكنج لا يقتصر على الجبال فقط).

جانب من الفوج مع بدو القبائل الثمانية قبل الرحيل

ليست هذه المرة الأولى التي أخوض فيها تجربة كهذه، فقد قمت بالتجوال في محمية وادي دجلة عدة مرات من قبل، كما سرت قليلا في بعض الوديان والجبال والأخاديد القريبة من مدينتي نويبع ودهب في ثلاث سفريات قصيرة، بالإضافة لصعود جبلي النور وثور بالمدينة المنورة في سفرتي الحجازية الثانية، وقبلهم كانت زيارات الصحراء الغربية في كل من الفيوم وسيوة والصحراء البيضاء قرب واحة الفرافرة بالوادي الجديد. في كل منهم تستقبل الطبيعة وتستقبلك كما هي بترحيبها وحفاوتها، كما بقسوتها وشدتها. فتفتح لك ذراعيها برحابة أفقها اللامتناهي، وتضيء لك الليالي بمصابيح نجومها الساطعة وتوهج مجرتها المتلألئلة، كما يشتد عليك قيظ هجيرها، وتزل أقدامك تحت وعورة صخورها.

لكل تجربة من هؤلاء مذاق مختلف، ولكن يجمعهم أنك تنفصل عن الحياة المدنية كلية بكل مشتتاتها وملهياتها، فلا اتصالات ولا شبكة موبايل ولا إنترنت؛ كما أنه لا زحام ولا تلوث ولا ضجيج. فقط نقاء بكر صافي يتيح لك التوحد مع الطبيعة والاستغراق في التأمل وقراءة كتاب الله المنظور، امتثالا لأمره "قل سيروا في الأرض"، وهي عبادة لا تقل أهمية عن تلاوة كتاب الله المسطور. فالتأمل في الكون والتفكر والتدبر في الخلوة والخلاء سنة الأنبياء من قبل، الذين ما من أحد منهم إلا وقد عمل بالرعي، ومارس السفر والترحال، أو انعزل عن الناس بعض الشيء في غار أو صحراء أو أعالي الجبال ليصفو ذهنه ويسبح في ملكوت الله كي يتلقى وحيه.

الصورة من رحلة سابقة في مخيم عين الحضرة قرب نويبع للمصور أحمد صبري من فريق Dusk فيما كانت النجوم هذه المرة أكثر سطوعا قرب نهاية الشهر العربي، لكن لم أستطع تصويرها بإمكانياتي المتواضعة بالطبع.

كما أنه مما يجمع هواة التمشاء على اختلاف ثقافاتهم هو عشقهم الفطري للطبيعة، وحرصهم الشديد عليها في كل مسار يقطعونه، وحفاظهم على عدم ترك أي أثر يضر بالبيئة الطبيعية وفطرتها، وهي ثقافة نفتقدها كثيرا في أماكن سياحية أخرى - كالشواطئ - فلا تكاد تخلو من ملوثات ومخلفات بلاستيكية وتشويه غير مسئول للطبيعة. فيما يمتاز هواة التمشاء بحس مرهف ووعي بيئي عال، وكان هذا مميزا جدا في تلك الرحلة تحديدا، حيث أن عدد الفوج بها كان كبيرا جدا مقارنة بأي رحلة أخرى، ورغم ذلك سعدت بنا الطبيعة التي تركها الجميع كما كانت، بل ربما أفضل أيضا، فكان الحرص على تنظيف أي آثار بعد كل تجمع، فيما كان يسقي بعضهم شجيرات هنا وهناك مما تبقى معه من مياه كان يحملها للشرب.

كانت هذه مقدمة سريعة، وسأحكي في التدوينة القادمة المزيد عن الرحلة باستفاضة أكثر.