Sunday, November 12, 2023

أحياء بتراثنا


من المؤكد أنك تعرف أثناء متابعتك لأحداث غزة الأن أنها ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل مشافي وعربات إسعاف بهذا الشكل الهمجي الممنهج، فليس جديد عليهم هذا المستوى من الخسة؛ لكن ربما لا تعرف أنه منذ 20 عاما عقب مجزرة مخيم جنين التي حدثت ضمن عمليات الدرع الواقي في 2002 بعد الانتفاضة الثانية، قام فنانون فلسطينيون بمجع بقايا عربات الإسعاف المدمرة حينها وصنعوا منها عملا فنيا في شكل حصان حديدي تم وضعه في ميدان رئيسي بالمخيم وصار اسمه دوار الحصان كرمز وشاهد على بشاعة الاحتلال. ظل هذا الرمز شاهدا حتى أسبوع مضى حين قام الاحتلال باجتباح المخيم ثانية وكان من أوائل ما استهدفه هو هذا الحصان دة أثناء حملاته العدوانية في الضفة.



يعد هذا مجرد مثال واحد من مئات وآلاف الأمثلة على أن الحرب اللي يخوضها العدو ضدنا ليست فقط عسكرية ولا سياسية ولا إعلامية ولكن ثقافية أيضا، وأي شيء له دلالة رمزية يحرص دائما على إما محوه أو السطو عليه وسرقته ونسبته لنفسه. هذا نذر يسير مما تعلمته في ورشة "احكينا يا فلسطين" اللي نظمتها مدرسة خزانة حول كيفية توثيق التراث غير المادي بالتعاون مع أستاذة أمال الأغا ومهندسة عالية عكاشة من الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية وبإشراف أستاذة أميرة النشوقاتي من مؤسسة الأهرام.


هذا الحصان لا يعد أثرا تاريخيا منذ مئات السنين، فقيمته ليست بعمره بقدر ما هي من دلالته وما يعبر عنه، وهذا ما يسمى بالتراث الحي، وهو الأمر الذي يحاول الفلسطينيين أن يحافظوا عليه ويتوارثوه ويتمسكوا به ربما أكتر من التراث المادي الذي تدمره الحروب، وكل محاولة لتوثيقه وإثباته والتحدث عنه لا تقل أهمية في النضال عن أي معركة أخرى في كل مجال وساحة.


شمل الحوار في الورشة محاور عدة أهمها، الأزياء و التطريز ليس فقط كهوية ورمز لكل منطقة في فلسطين، ولكن أيضا كأداة للنضال مثلما كانت تلجأ النساء لتطوير طرز جديدة فيها علم فلسطين كمقاومة صامتة حينما كان يقوم العدو كان بحظر مجرد رفع العلم في للمجال العام. وتطرق النقاش إلى الحطة الفلسطينية، والتي تختلف عن التنويعات الأخرى من الغترة والشماغ والشال البدوي من حيث حجمها وشكل نقشتها، وأنه في الأغلب كان هذا النقش مستوحى من شبكة الصيد التي يستخدمها أهالي الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، لكنه صار له بعدا رمزيا بعد ذلك في إشارة إلى السلك الشائك الذي يحاصر المحتل به الشعب


المحور الثاني كان عن المعمار وارتباط الفلسطيني الكبير بداره وحيه وجيرانه لدرجة أنه عند كل تهجير اضطراري يحاولون المحافظة على نفس النسيج المجتمعي وتراتب جيرة الأسر والعائلات مع بعضهم البعض مثلما كانوا يسكنون في حيهم الأصلي من قبل. كما أنهم بيبنون المخيمات بأبسط الإمكانيات، وليس الحجر كالمعتاد، في تأكيد على أنه دار مؤقت سيغادرونه يوما ليبنوا دورهم الأصلية من الحجر مرة أخرى حينما يتحقق حلم العودة يتحقق إن عاجلا أم أجلا مع الأجيال الأصغر.

تحدثنا أيضا عن الاكلات الشعبية وقصة المقلوبة التي يرجع تاريخ تسميتها إلى لحظة ستقبال صلاح الدين ساعة عند فتح القدس، وظلت رمزيتها مستمرة من بعدها إلى الآن لدرجة إن الصهاينة يعدون أكلها خطر على أمنهم!

وتطرق الحديث عن الصناعات المرتبطة بأشهر شجرة فلسطينية، الزيتونة المباركة، التي يستخدم زيتها في كل الأكلات، وثمرتها تدق وتخلل، وخشبها يستخدم كتذكارات ويدخل في صناعات مختلفة. بالإضافة إلى صناعة الصابون النابلسي الأصلي ومعه الجبن النابلسي التي ربما ساهم السوريون في انتشارها في مصر مع الكنافة المميزة فلسطينية الأصل.



ولشدة رمزية الزيتون وارتباط الفلسطيني به - كما تعبر عنه صورة الحاجة محفوظة الشهيرة - كان يحرص الاحتلال على قطع اشجاره التي تبلغ أعمارها أضعاف أضعاف عمر الكيان اصلا.


وكأحد أهم محاور التراث غير المادي تحدثنا عن  الحكي الشعبي والدبكة والأغاني التي بتوارثها الأجيال وتضيف عليها، والتي يعد من أقدمها وأشهرها قصتي ظريف الطول و دلعونا، التي كانت كل واحدة منهما حكاية مستقلة منفصلة ثم اندمجوا في الخيال الشعبي مع الوقت.

تقول الأساطير أن عناة إلهة الخصب والحب بنت الإله إيل عند الكنعانيين كان يتوسل إليها العشاق، أو أنها اسم بنت اصلا يريد حبيبها الوصول إليها "دلوني على عناة" التي ستحرف إلى دلعونا ويصير هذا الحبيب هو ظريف الطول فيما بعد العونا راحوا الحبايب وما ودعونا. أما ظريف الطول فهو شاب شهم وسيم متوسط الطول ترك مطاردة الفتيات له ووهب حبه لأرض فلسطين و كان يقاوم الإنجليز وقت الانتداب البريطاني واختفي بعد ما هجم العدو على القرية ولم يعثروا عليه بين الأموات ولا الأحياء، ثم صار شبحه يظهر في كل مكان فيه مقاومة حتى ثورة 1936 وما بعدها.

حاوت فرق كثيرة حديثة إعادة إنتاج هذا التراث الشعبي، أبرزها فرقة العاشقين وفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية وكورال عباد الشمس.


كانت الورشة ثرية جدا وسرقنا الوقت فلم نغطي محاور أخرى من التراث الحي، هذا غير المعلومات والأحداث والسياقات المتعددة التي تطرقنا إليها خلال النقاش ورموز خالدة تعرفنا عليها، مثل فاطمة بروناي التي تعد واحدة من أبرز وأوائل رموز المقاومة النسوية المسلحة - بعد زهرة الأقحوان - والمبهر أن فاطمة فلسطينية من أصل نيجيري حيث استفرت عائلتها الإفريقية في فلسطين أثناء رجوعهم من الحجاز في رحلة الحج ثم مروا بالقدس وما لبثوا أن قرروا الاستقرار بها، فعاشت وانتمت للمكان ونفذت عمليات نوعية تعتبر الأولى من نوعها واعتقلت فترة كبيرة في سجون الاحتلال ومنحتها السلطة الفلسطينية رتبة عقيد.


في النهاية نستطيع القول أن مجالات المقاومة كتيرة والنضال ضد الاحتلال سيظل مستمرا طالما جرت في أجسادنا أنفاسنا وظت فينا الروح، أو حتى بعد رحيلنا طالما أبقينا شيئا من أرواحنا لمن بعدنا يظل يتنفس في التراث الحي.

Sunday, July 23, 2023

ديما مغرب، دائما ستكون لنا عودة! :3

قبل ثلاثة أعوام، لم أكن قد وصلت لمرحلة الارتواء و الاكتفاء من الجبال المصرية منذ أن استهوتني رياضة الـ hiking قبلها بمدة، فحتى الآن لم أزر أشهرهم - جبل موسى - مثلا، وفشلت محاولة الوصول لجبل علبة. لكن ربما تجاوزي حاجز العشر قمم بالإضافة لبعض جبال مكة وبتراء الأردن قد دفعني لعقد العزم على صعود أعلى قمة عربية - جبل توبقال في سلسلة أطلس المغرب الكبير.

قمة توبقال

قبل أن أبدأ في البحث والتجهيز للسفر داهمتنا الجائحة والإغلاق التام فأجلت المشروع لحين ميسرة. ثم بدأت تلوح في الأفق بوادر الانفتاح مرة أخرى بعد عام ونصف حيث بدأت التجهيزات والاستعدادات والتطعيمات وتمرينات اللياقة البدنية أيضا مع الأصدقاء في Egypt Hiking Community ولكن حال التأخير المتواصل من السفارة في فتح باب التأشيرات دون إكمال المحاولة حينها. حتى آن الأوان أخيرا وقمت بالرحلة الموعودة بنهاية العام الماضي و الأيام الأولى من 2023 لتكون خير ختام للعام الذي أتممت فيها عامي الأربعين (41 بالهجري) واجتيازي أول ماراثون قبلها بشهور قليلة (ربما أحكي عن تلك التجربة لاحقا).

كنت قد عرفت من بعض الأصدقاء عن صعوبة إجراءات التأشيرة المغربية، التي ربما تتطلب أوراقا أكثر من تلك التي تحتاجها للحصول على تأشيرة أوروبا، غير الزحام الكبير وعدم تنظيم الدور؛ ولكني كنت محظوظا بعض الشيء فأنهيت كل شيء في نفس اليوم ولم أحتج سوى لتغيير بيانات استمارة واحدة وكشف حساب بنكي ولم يكن الطابور أمامي شديد الطول. ثم حصلت على الجواز مختوما بالتأشيرة بعد أسبوعين من أول مرة، بخلاف ما حدث مع أحد المنظمين، التي تم رفض طلبها أول مرة، رغم سفرها بسهولة للمغرب من قبل!

طابور السفارة

لكن كان هناك معوقات من نوع آخر، فأثناء التحضيرات وإنهاء الحجوزات كان قد حدثت الموجة الثانية من تحرير سعر الصرف، وتبعتها القيود على استخدام الكروت بالعملة الأجنبية وتعقيدات تدبير العملة للسفر. فكان لا مفر من التحايل واستعارة كروت من الأصدقاء وتقسيط المبلغ على دفعات، وأخيرا محاولة استغلال خدمة نقاط الولاء التي توفرها لك بعض البنوك في دفع بعض الخدمات بدون كاش، والتي اكتشفت أنها خدعة وضعتني في موقف محرج مع رفاق الرحلة حين تبين أني حجزت ليلة في فندق وهمي متوقف عن العمل منذ فترة كبيرة، حتى ساعدوني مشكورين في توفير حجز آخر في وقت متأخر من الليل!

قبيل السفر قام فريق وايلد جوانابانا بعقد لقاء أونلاين لمعرفة أهم الاستعدادت التي علينا التحضير لها والتعرف على المنظمين ورفاق الرحلة الذين قابلت بعضهم في صالة المطار قبل أن نتفرق مرة أخرى لاختلاف مواعيد رحلاتنا. سافرت على الطيران المغربي، لم تكن وجبة الطعام وفق توقعاتي منذ أن تناولت الطعام المغربي للمرة الأولى على الطيران القطري قبل سنوات ولم انس مذاق شوربة الحريرة المميزة منذ ساعتها. لكنه كان تقليديا مثل معظم شركات الطيران فيما عدا علبة الزبادي التي كانت مميزة بنكهة الفانيليا الجديدة بالنسبة لي وسكر خفيف.

كالعادة نمت بعض الوقت أثناء الرحلة لكني كنت محظوظا بالاستيقاظ قبل الهبوط لأستمتع بمنظر الخضرة الممتدة المحيطة بالمطار على غير ما تعودت عيني من اللون الأصفر في مطارات مصر والسعودية. وأذكر أني كنت منبهرا بتلك الخضرة من الأعلى لأول مرة في الأردن ولم يحالفني الحظ لرؤيتها مرة أخرى في الهند أو أوروبا إما لتوقيت السفر ليلا أو لنومي لنهاية الرحلة. وصلت الدار البيضاء ظهرا وكان لدي بعض الوقت في الترانزيت للخروج والتجول بالمدينة. لم تظهر لي خرائط جوجل جميع خطوط المواصلات، لكني أخذت القطار من المطار إلى محطة تجميعية بها خطوط لنواح مختلفة من المدينة. لا يعمل أوبر في المغرب، يوجد تطبيق محلي يدعى robi taxi وكريم فقط. حاولت استخدام كريم وجاء السائق قبالة إحدى جهات المحطة بينما كنت أنتظر في الجهة المقابلة، وريثما تفاهمنا عبر مكالمة واتساب وشرعت في التحرك للجهة الأخرى كان قد ألغى الرحلة وغرمني التطبيق تكفلتها دون الرد على طلب الاسترداد.

محطة كازافوياجيه

خرجت من المحطة لأجد ميدانا به موقف صغير للأوتوبيسات والترام.  سألت أحدهم ثم استقللت الترام لعدة محطات وأنا أتابع وجهتي على جوجل لأجد بعد محطة وسيطة أني أبتعد عنها، فنزلت. تجولت قليلا بشوارع المدينة التي كنت أستشعر وأنا أمشي بها كأنني في شارع سعد زغلول بالإسكندرية ومنطقة وسط البلد هناك بمبانيها العتيقة الأصيلة وحيوية طبيعتها التجارية، مع بعض الشيء من طابع مصر الجديدة بالقاهرة.

الدار البيضاء من نافذة الترام

كان الوقت بدأ أن ينفد قبل زيارة أهم معلم بالمدينة كما قيل لي، وهو مسجد الحسن الثاني، الذي كان يعد أكبر مسجد بأفريقيا، وهو حديث نسبيا فقد تم بناؤه في التسعينات مطلا على المحيط الأطلنطي. أوقفت تاكسي وأخبرته عن وجهتي، وتبين لي أثناء الطريق أنه لا محطة كانت ستوصلني أصلا، وربما من سألته اختلط عليه الأمر وظن أني أبحث عن مسجد محمد الخامس (المحمدي). وصلت بعد المغرب وقد بدأ الظلام يحل وعلي الإسراع للحاق بموعد الطائرة، فاكتفيت بالتجول في ساحة المسجد دون دخوله ومحاولة التقاط صور من زاوية تظهر المسجد مع البحر الممتد لكن لم تفلح مع قلة الضوء. كان معظم الزوار مغاربة وقليل من السياح الآسيويين ولم يكن حوله أي أنشطة أخرى ولا حلقات علم بداخله مثلا ولا كثافة سكانية في المنطقة حوله، فلم أشعر بأي حياة حقيقية له ولا يبهرني شعارات الأكبر والأضخم والأعلى بلا قيمة فعلية ذات أثر.

ساحة مسجد الحسن الثاني

قفلت عائدا في تاكسي آخر إلى محطة القطار وقد بدأت ألاحظ الطابع العام للمدينة الكبيرة - بخلاف منطقة وسط البلد شبيهة الإسكندرية - وطرازها المعماري وتميزها باللون الأبيض فعلا ربما كمحاولة للاتساق مع اسمها التاريخي. فيما سأكتشف لاحقا أن هذا اتجاه حضاري عام في تخطيط مدن المغرب بحيث يكون لكل منها رونق وروح خاصة، مثل شفشاون الزرقاء التي لم أزرها، ومراكش الحمراء التي قضيت بها معظم رحلتي.

أثناء محاورتي مع بعض المارة وسائقي التاكسي والباعة، على عكس توقعي، وجدتهم يفهمون اللهجة المصرية بسهولة، وأستطيع أنا أيضا التحاور معهم بمجهود قليل؛ وكنت قد عانيت من قبل في التفاهم مع بعض الزملاء من الجزائر والمغرب في أحد المؤتمرات بجدة قبل سنوات، فحولنا لغة الحوار إلى الإنجليزية - فيما كانوا يتحاورن بطلاقة أكثر مع اللبنانيين بالفرنسية، وكان المشهد العام غريبا أن يتفاهم كل هؤلاء العرب على أرض عربية بلغة غير العربية. على العكس في المغرب كان التواصل شديد السهولة، يضاف إليه الترحيب الودود من المغاربة للأجانب عامة والمصريين خاصة، هذا غير الأدب الزائد في الخطاب مثل استخدام ألقاب سي / سيدي / سيدتي، فيما ينادون أفراد الأسرة الحاكمة بلقبي مولاي للأمراء ولَلَّا للأميرات.

مما أثار دهشتي أيضا اعتماد الأمازيغية كلغة رسمية تكتب بها اللافتات على الطريق وفي مداخل الهيئات العامة وبعض الشركات جنبا إلى جنب مع العربية والفرنسية، وأحيانا العبرية أيضا. كنت قد تعرفت على الأمازيغية قليلا أثناء زيارتي لسيوة بصحراء مصر الغربية، وحاولت تعلم بعض كلماتها التي نسيتها في حينها ولم أستطع إظهار أي مهارة في فهمها أمام أهل المغرب الأمازيغ فيما بعد. لكن كان تصوري أنها لغة منطوقة فقط مثل النوبية ولغة قبائل البجا بصحراء مصر الشرقية، وحين يحاولون كتابتها فسيتخدمون أبجدية قائمة كالعربية أو اللاتينية؛ ولكن فوجئت في المغرب أنها لغة مكتوبة أيضا ولها أبجديتها الخاصة كذلك، بل ومعتمدة رسميا من الدولة. أثار إعجابي أيضا فصاحة تعبيراتهم العربية في اللافتات والمسميات التي تستخدم مفردات ربما لم نتعود عليها من قبل لكن بها فصاحة جميلة، لكن تعجبت من الإفراط في استخدام الطاء في تعريب بعض الكلمات الإفرنجية مثل "طاكسي" بدلا من "تاكسي" كما نسميه مثلا؛ وقد كان انطباعي من قبل عن أهل المغرب العربي استخدامهم الكثيف لحرف القاف وليس الطاء.

لافتة تحمل نصا بالأبجدية الأمازيغية

بالطبع لم تخل بعض المحاورات من الحديث عن كرة القدم - التي لا أفقه فيها كثيرا ولا قليلا، واستشعرت مدى إحباط سائق الطاكسي حين بدأ بسؤالي: أهلاوي أم زملكاوي، فأخبرته أني لا أشجع أيهما أو أتابع من الأصل، لكني أثنيت على أداء منتخب المغرب في كأس العالم الذي شرف كل العرب؛ وكانت ما تزال أجواء المونديال مسيطرة على المزاج العام والحوارات واللافتات الإعلانية التي تحيي المنتخب على الإنجاز غير المسبوق. المهم أني عدت أخيرا إلى محطة القطار، ومنها إلى المطار، لألحق بالطائرة الصغيرة في الموعد، إلا أنها تأخرت قليلا في الإقلاع لتصل في أقل من ساعة إلى مراكش قرابة منتصف الليل.

كنت آخر من يصل من الفوج إلى مراكش، سبقني رفاق الصباح ووصل بعضهم قبلها بيوم أو يومين، فيما عاد أحدهم من الفندق إلى المطار مرة أخرى ليتسلم حقائبه التي تأخرت، فركبنا معا حتى سور المدينة وأقرب بوابة إلى منطقة الفنادق حيث سأنزل أنا وآخر في أحدهم، وبقية المجموعة في فندق آخر مجاور. لا تتعجل السؤال، سأخبرك عن أمر تلك المدينة المبهرة وعن أمر تلك الفنادق التي لا تكاد تسع فوجا صغيرا لا يتجاوز العشرة أفراد. وتلك ميزة أخرى من مزايا هذه الرحلة، فأنا لا أحبذ الأعداد الكبيرة، خاصة عندما أسافر لوحدي، فالرفقة الصغيرة تكون أكثر قربا وتقلل من شعورك بالوحدة أو الغربة وتساعد على تكوين الروابط والصداقات حتى بعد الافتراق. وقد كنا مجموعة متنوعة من المغامرين من أجيال وخلفيات مختلفة، سعوديان وإماراتي والبقية مصريون، أصغرنا بورسعيدي يعمل في الموانئ مع هيئة قناة السويس، وأكبرنا الإماراتي متنوع الاهتمامات الذي ترك مهنة الطب واتجه إلى الطيران ثم الدبلوماسية والدراسات العليا والأبحاث حول العلاقات النووية الباكستانية الهندية وتأثيرها على الإمارات.

كان السكن في مراكش القديمة، المدينة الأثرية المسورة ذات البوابات التي تشبه القاهرة الفاطمية، غير أنها مدينة بحق، وليست شارعين وبقايا سور قديم كما القاهرة. ما إن تدلف من إحدى بواباتها حتى تشعر أنك عدت بالزمن دهورا سحيقة، وأنك تستشعر عبق التاريخ حقا في كل تفصيلة من تفاصيل تلك المدينة: طراز البيوت القديمة، أزياء السكان التقليدية، الحوانيت ذات الأبواب الخشبية الضخمة، الأسواق الشعبية، عربات النقل التي تجرها الحيوانات، حتى المساجد التي ما زالت تستخدم نوافير الوضوء قبل اختراع صنابير المياه.

 تغلق المدينة بواباتها ليلا وتفتح صباحا، فلا يسمح للسيارات بالدخول وإزعاج السكان وهم نيام، فنزلنا من السيارة واستقبلنا حسين ورفيق له ساعدنا في جر الحقائب عشرات الأمتار من البوابة حتى وصلنا وجهتنا. لا يوجد فنادق بالمعنى التقليدي في المدينة القديمة، بل هي نزل صغيرة تسمى الرياض، وتشبه بيوت القاهرة العتيقة مثل بيت السناري والكريتلية. فقط بضع حجرات على دورين أو ثلاثة بعد ساحة الاستقبال ذات الفناء الداخلي المفتوح الذي يرى الشمس وينظم التهوية داخل المبنى الذي تطل أبواب غرفه عبر ممر على الفناء وزينته وزرعه ونافورته من ناحية، ونوافذه على الشارع من الجهة الأخرى. ضرب من السحر والبهجة والجمال! حتى التصميم الداخلي للغرف مزيج من البساطة الآسرة وكلاسيكية تراثية في تفاصيل دقيقة مثل السجاد التقليدي في الفرش أو الصنابير النحاسية بالحمام وحتى الجلباب الشعبي في الخزانة، والذي ارتديته بالفعل فوق الملابس ليلا حين كان الجو باردا.

بهو الرياض

وضعت الحقائب وتعرفت على ياسين، رفيقي الحجرة، ثم نزلت لأسأل حسين قبل أن ينام ما إذا كان يمكنني تناول عشاء خفيف في أي مكان قريب، فلم أكن قد أكلت شيئا منذ وجبة الطائرة ولا طوال تجوالي في كازا (الاسم الشعبي للدار البيضاء / كازابلانكا). لكنه أخبرني أن جميع المحلات قد أغلقت ثم أحضر لي مشكورا بعض الفاكهة وعلبتي زبادي وعصير.

أسوار المدينة الساحرة

لم يكن هناك الوقت لأتعرف على المدينة التي أدركت أني سأحبها كثيرا. فقد استيقظنا في الصباح لنحزم أمتعتنا مجددا بعد الإفطار للتحرك إلى قرية إمليل التي تبعد قرابة الساعة والنصف بالسيارة جنوب مراكش، والتي تقع على ارتفاع أقل قليلا من 2 كيلو متر كجزء من سلسلة جبال الأطلس وتمثل نقطة الانطلاق من الأطلس الكبير إلى قمة جبل توبقال، غايتنا المنشودة. وصلنا للرياض الذي سنقيم فيه، ووضعنا رحالنا وغيرنا ملابسنا وتجهزنا لتمرينة خفيفة عند الظهيرة ستستغرق قرابة الثلاث ساعات نصعد فيها حوالي نصف كيلو متر، مع استراحة في المنتصف للغداء، حتى تتعود أجسامنا وتستعد للمهمة الشاقة بدءا من الغد.

التقينا ببعض الدارجين في الطريق إلى إمليل

عدنا أدراجنا بعد العصر لنرتاح قليلا حتى الغروب ثم تناولنا العشاء على سطح الرياض بعد أن ارتدينا الملابس الثقيلة، فالجو هنا في إمليل المرتفعة ونحن في ديسمبر أبرد بعدة درجات من الليلة السابقة في مراكش. كان طبق الكسكسي سيد المائدة هذه المرة، وهو ما سيتكرر بتنويعات مختلفة من اللحوم والخضروات في الأيام التالية، وهو من أشهى الأطباق المغربية. في مصر نعرف فقط طبق الكسكسي الحلو بالسكر، لكني تذوقته كطبق رئيسي حادق للمرة الأولى بوصفة تونسية لم تعجبني، لكني غيرت رأيي تماما بعد أن أهداني جار مغربي في الحج طبقا من الكسكسي المطبوخ جاء في وقته حينها، وكدت أن أجمع بقية الأطباق التي أهداها لرفاقنا الآخرين الذين لم يقتنعوا أن الكسكسي يمكن أن يؤكل بدون سكر. شربنا الشاي بعدها، في أكواب صغيرة منقوشة، والشاي  دائما أخضر ذو مذاق مميز، فلا يعرفون في المغرب الشاي الأحمر. وليلا يتم تقديم اللويزه (حشيشة الليمون) فيقال أنها مهدئة ويفضل شربها قبل النوم، ونكهتها مميزة أيضا عن التي تناولتها في سيوة ومطروح من قبل.

كئوس الشاي المزخرفة

استيقظنا مبكرا لنحزم أمتعتنا مرة أخرى بعد أن نقسمها جزأين، شنطة ظهر خفيفة بها حاجياتنا الأساسية التي سنحتاجها أثناء رحلة الصعود، وبقية الأمتعة ستحملها لنا البغال وتسبقنا إلى المحطة التالية، لا يوجد هنا جمال كالتي في سانت كاترين، والبغل يجمع بين قوة الحصان وتحمل الحمار، أدهشني صوته الذي يبدأ بصهيل جزئي ثم ينتهي بنهيق في المقطع الثاني. أما بقية الأمتعة التي لن نحتاجها فسنتركها في رياض إمليل لحين عودتنا مرة أخرى بعد الرحلة التي ستسغرق ثلاثة أيام.

حمال الأسية

حالما حزمنا الحقائب، كان الإفطار جاهزا. والفطور في المغرب لا يوجد به تنوع كبير كما في الوجبات الرئيسية متعددة الأطباق والسلاطات وطرق الطهو المختلفة لنفس الصنف. ربما التنوع الوحيد في أنواع المخبوزات، ثلاثة أنواع من الخبر على الأقل على السفرة مع الزيتون والمربى والعسل والزبادي والبيض المسلوق وإدام يشبه الطحينة أو زبدة الفول السوداني. لا يوجد عناصر متعددة الصور كالفول المصري بأصنافه أو منتجات الألبان مثلا. وربما لم يمتد التأثير الفرنسي إلى المطبخ المغربي في صناعة الأجبان بنتوعاتها الكثيرة، ولا أثرت هي أو أسبانيا كذلك عليهم في انتشار القهوة بديلا عن الشاي. وربما أيضا يقل هذا التنوع في الحلويات، فلم يعجبني كثيرا أشهر صنف عندهم، وهو الشباكية، مقارنة بما كانت تعده لنا أمي من قبل حين كانت تفنن في أنواع الحلويات. فيما أعجبني نوع من المقرمشات المسكرة التي تشبه البسكويت عند تناولها مع الشاي.

من سطح الرياض قبل التحرك

جاء الدليل ليستعجلنا، لكننا لم نبدأ بالتحرك حتى التاسعة صباحا (حوالي ساعتين بعد الشروق). كانت السماء صافية والجو هادئا فوضعت المعطف الثقيل في حقيبة الظهر، مما جعلها منتفخة جدا وزادت ثقل الحمولة بعض الشيء. خلال أقل من ساعة كنا قد فارقنا المنطقة السكنية والبيوت الجبلية المحيطة بإمليل واتخذنا مسار الصعود، حيث بدأت تلوح بعض شلالات الماء المنهمر من الثلوج الذائبة القادمة من أعلى الجبل، كما كان يقابنا غابات من الأشجار بعضها طبيعي مثل العرعر الفواح من عائلة السرويات، وبعضها قامت باستزراعه الهيئة الوطنية لمحمية ومنتزه توبقال.


من أعذب المياه التي شربتها من الطبيعة مباشرة

بعد قرابة الساعتين والنصف وصلنا أول استراحة. كنت قد تحللت قبلها من طبقتي ملابس واكتفيت بطبقة واحدة نصف كم، فالحركة تكسب الجسم حرارة مع الشمس الساطعة، رغم أن حرارة الجو تأخذ في الانخفاض كلما ارتفعنا لأعلى، لذا ارتديت جاكت خفيف مرة أخرى حين مكثنا في الظل لاستراحة فصيرة نلتقط فيها الأنفاس ونشرب المياه ونتناول شيئا من الطعام الخفيف كالمكسرات المالحة أو التمر والسكريات والفواكه المجففة لكتسبنا الطاقة و الأملاح اللازمة لاستكمال المسير. سأنتبه فيما بعد إلى أن الحلوي التي أحضرتها مثل النوجا والطوفي قد فقدت قوامها الطبيعي مع برودة الجو بعد استراحة أخرى أو اثنتين، ولم أكن قد تذوقتهم قبل أن أقدم منهم للرفاق وألحظ أنها لم تعجبهم ولم يطلبوا المزيد منها، وحين حاولت تناولها وجدتها أشبه بالحجارة وكأنها تجمدت ولم تعد لسابق عهدها حتى بعد نزولنا وعودة الحرارة مرة أخرى. فيما نفدت كمية الفول السوداني سريعا وقد كان الإقبال عليها كبيرا.

ما زال أمامنا الكثير حتى الاستراحة القادمة

توقفنا في استراحتين بعدها، واحدة للغداء وصلاة الظهر والعصر، وأخرى تناولنا فيها عصير البرتقال الطازج، أكثر فاكهة منتشرة بالمغرب، ويسمونها الليمون، فيما يسمون الليمون الحامض كما الشوام، وتنتشر زراعته في كل مكان، حتى الشوارع العامة، وأحيانا يتركون ثماره دون قطاف، فليست كل أنواعه صالحة للأكل. وتنتشر عربات العصر اليدوي في الشوارع والميادين بكثرة وبأسعار تتفاوت من 5 إلى 20 درهم، ليس للبرتقال فقط، بل أيضا القصب والرمان، وهو ألذ فاكهة تذوقتها في مراكش، الرمان شديد الاحمرار وغزير السائل ويستخدمون نفس طريقة العصر اليدوي بعد قسم الثمرة نصفين، فيخرج عصيرا صافيا حلوا بدون شوائب عصر الخلاط. بعيدا عن العصائر، تذوقنا فواكه أخرى بعد الوجبات، ولكن أقلهم جودة كانت الفراولة فلا تقارن مطلقا بنظيرتها المصرية.

ألذ عصير رمان على الإطلاق

قرب الاستراحة الثانية مررنا على مقام شمهروش ملك الجن، وهو من الأساطير الشعبية التي يعتقد بها عوالم موازية بالمغرب وخارجها، لم تتح لي الفرصة لأسمع أكثر عن حكاويهم المنسوجة بالخيال والخرافة والقليل من الحقائق كما أخبرنا الدليل. وكلما استمررنا في المسير تبدأ تظهر أكثر الثلوج البيضاء التي كانت تلوح لنا في الأفق البعيد من قبل، ويقل معها الخضار و الأشجار التي كانت تحيط بنا بكثافة في البداية.

راية شمهروش (العلم الأخضر والأبيض على القبة البيضاء)

بعد العصر بقليل، وصلنا أخيرا محطتنا النهائية لهذا اليوم، وهو مأوى توبقال. سيكون في انتظارنا بالطبع بعد الراحة قليلا ووضع أمتعتنا أهم وقود لمتسلقي الجبال العالية في الأيام الباردة: طبق العدس الساخن قبل العشاء. قبيل وصولنا كانت الثلوج قد أحاطت بنا من كل مكان بالفعل، وكنت أخطط لأن أحاول الخروج مجددا بعد راحة قليلة للعب في الجليد قليلا قبل الغروب، ولكن ستكسر بهجة الانبهار والاستمتاع بهذه الثلوج التي أراها للمرة الأولي بهذه الكثافة، شدة البرودة مع التعب الذي لا تشعر به إلا بعد الراحة والاسترخاء.

ها قد وصلنا

المأوى الذي سنبيت فيه ليلتنا مكون من ثلاث طوابق ليستضيف عددا كبيرا من المغامرين. به حمامات مشتركة باردة المياه إلا واحدا به صنبور ماء ساخن يمكن ملء دلو كبير منه واستخدام الماء منه بإناء صغير، ولكننا سنكتشف ذلك متأخرا قليلا بعد أن طلب أحد الرفاق تسخين بعض المياه في زجاجة من العمال في المطبخ كي نستخدمها في الوضوء، فيما غامر رفيق آخر بالاستحمام بالماء شديد البرودة في جو تقترب حرارته من الصفر المئوي وسط ذهولنا جميعا.

ينبوع الدفء والطاقة

ربما كنت مستعدا لكل هذا وأكثر فيما عدا في مفاجأة واحدة لم تكن في حسبان توقعاتي. فكثرة السفر في الصحراء تكسبك بعض المهارات أو تقبل بعض الأمور التي ربما تظن أنك لن تستطيعها، مثل تعلم الاقتصاد في المياه، وتحمل الماء البارد (في الوضوء وليس الاستحمام!)، واستخدام الحمام البلدي لقضاء الحاجة في الاستراحات (أو مهارة البحث عن مكان مستور في الخلاء وسط الصحراء لتلبية نداء الطبيعة في الطبيعة)، والنوم على الأرض بمنامة وغطاء دون مرتبة عالية أو وسادة وثيرة، وغيرها من مهارات التعايش في البرية. أما ما فاجأني فهو غرف المأوى التي سننام فيها سويا جنبا إلى جنب. أعرف تجربة بيوت الشباب من قبل، حيث مكثت في أحدها خلال رحلة مدرسية قديمة للأقصر وأسوان، ولا مشكلة عندي في المبيت مع آخرين في مكان يشبه الملاجئ وعنابر المساجين أو مخيمات اللاجئين المؤقتة، لكن عادة ما تكون الغرف ذات أسرة منفصلة من طابقين تسع حوالي 10 أشخاص مثلا على الأكثر. أما غرف هذا المأوى فربما تسع أكثر من 30 شخص، بها وحدتين أو ثلاثة من دورين، وكل دور يسع حوالي 8 أشخاص بجوار بعضهم البعض. ليس هذا فقط، بل الغرف مختلطة أيضا، يشاركك فيها جيران وجارات من رحلات أخرى وجنسيات مختلفة، لا يجد بعضهم حرجا في تغير الملابس أمام الإخوة في المغامرة، فيما تنتظر أنت دور في الحمام أو لحظات نادرة تخلو فيها الغرفة وقت الطعام لتبديل ملابسك تحت الغطاء. تضافر الشعور بعدم الراحة في هذه الغرفة مع أنغام الشخير المختلطة والبرد القارص الذي زادت شدته ، وساهم كل ذلك في القلق والتقلب داخل المنامة طوال الليل دون الحصول على قدر كاف من النوم نحتاجه بشدة قبل الاستيقاظ في الرابعة آخر الليل لنستعد لليوم الموعود إلى القمة. ولا أدري لِم لَم يكن هناك إمكانية لأن ننصب خيمنا الخاصة مثلا في ساحة المكان ليتوفر لكل منا بعض الخصوصية، وهناك خيام تعزل الحرارة وتتحمل شدة الرياح كان يمكننا أن نحضرها معنا من ضمن معدات الرحلة.

بسبب القلق نهضت ربما في الثالثة والنصف قبل موعد الاستيقاظ المتفق عليه، وأضأت كشاف الرأس بالضوء الأحمر الخافت ونزلت لأجهز حقائبي والمعدات التي سنحتاجها لهذا اليوم الذي يختلف عن أي رحلة جبلية خضتها من قبل. فبخلاف الأساسيات كطبقات الملابس المختلفة خفيفة وثقيلة، والكشاف الليلي، والقفازات، وطبقتي جوارب أحدهما من الصوف والأخرى من خامة غير قطنية، والنظارة السوداء وقبعة الشمس وغطاء الرأس الصوف، وحتى العصا التي عادة لا أحتاجها ولكني وجدت عصا خيزران أثناء المسير بالأمس فاستخدمتها قليلا ثم نسيتها واستعضت عنها بفرع شجرة آخر حتى وجدنا عصا جبلية كان قد نسيها أحد المغامرين، فأعطانيها الدليل لاستخدامها حتى نصل المأوى ونبحث عن صاحبها. بخلاف كل هذا تطلبت طبيعة السير في طبقات ربما تكون كثيفة من الثلوج إحضار أدوات إضافية قمنا بتأجير بعضها مثل الكرامبون/كاسر الجليد وهو إطار ذو حواف معدنية يتم ارتداؤه فوق الحذاء ليكسر الجليد أسفله ويمنع التزحلق على طبقات الجليد الصلبة الملساء. بالإضافة إلى فأس الجليد وهو عصا قصيرة تستخدم في تكسير كتل الجليد الضخمة لتعبيد الطريق الصاعد أمامنا أثناء التسلق، لكن لم نحتج لوظيفته الرئيسية كثيرا واستخدمته أكثر كعصا اتكاء بديلا عن عصا الشجرة الخشبية التي فقدتها. ومن الملابس الإضافية أحضرنا أيضا بنطالا مضاد للماء ليحمى السيقان التي لا تغطيها المعاطف العلوية جيدا من البلل حال هطول الأمطار. بالإضافة إلى الجرموق/gaiters وهو طبقة عازلة تغطي أسفل الأرجل لتمنع تسرب الثلوج من الفراغات بين نهاية السروال وفتحة الحذاء من الأعلى، خاصة عندما تغرس الأرجل في طبقات عميقة من الثلوج. لكني في النهاية لم أضطر لاستخدام أيا منهما طوال اليوم حتى عودتنا، فلم يجد الجليد شديد الكثافة، بل ن القمة نفسها لم تكن مغطاة بنفس القدر من الثلوج الذي أحاط بنا قبلها أثناء الصعود، ولا أدري هذا بسبب سطوع الشمس طوال الأيام السابقة أم أنه أحد التأثيرات الممتدة للاحتباس الحراري.

كامل الاستعدادات

استيقظ الجميع وحزمنا الحقائب ثم توجهنا لصالة الطعام المغلقة للإفطار بجوار الدفايات قبل أن نخرج لمواجهة البرد القارص في غسق الليل. كان الدليل ومساعدوه قد قاموا بتجهيز إطارات الكرامبون لتلائم مقاسات أحذيتنا حيث سنرتديها قبل التحرك مباشرة وسيقومون حينها بإحكام أربطتها لكل منا. وسنقوم بفك الإطارات وإعداة تركيبها مرة أخرى وسط الطريق، حيث لا ينصح بالسير على الحواف المعدنية في المناطق التي تخلو من الثلوج، ولكني لن أشعر بالارتياح وأنا أرفع قدمي فيما ينحني أحدهم ليثبت لي رباط الإطار مع الحذاء هكذا، وودت لو تعلمت أن أقوم بهذا بنفسي؛ فحتى عملية تلميع الأحذية أفضل فيها أن أخلع الحذاء وأتركه للعامل بدلا من أن يقوم بعمله أثناء ارتدائي له.

تحركنا بعد الخامسة بقليل، حوالي أقل من ساعتين قبل الفجر، في طابور متتالي متقارب مضيئين كشافات الرأس، فاليوم طويل ونحتاج أن يكون لدينا متسعا من الوقت للصعود والعودة قبل حلول الظلام مرة أخرى. لم نلتقط الكثير من الصور هذه المرة، فقد كانت محاولة أن تغامر بإخراج يدك من جيوبك ثم من القفازات للإمساك بالهاتف أمرا غير مأمون العواقب في درجة حرارة تكاد تقترب من الصفر، وظلت كذلك حتى بعد سطوع الشمس بفترة - فيما لم تعمل خاصية أصابع القفاز التي تدعم شاشة اللمس لدي بكفاءة. كنت أيضا قد نسيت إحضار زجاجات المياه التي تحتفظ بالحرارة، وبدأت ألاحظ تجمد المياه تدريجيا في الزجاجات البلاستيكية كلما أخرجتها لأخذ رشفة من الماء في الاستراحات القصيرة لصلاة الفجر أو التقاط الأنفاس قليلا بعد مرتفع صعب؛ فلا وقت لاستراحات طويلة أو غداء في هذا اليوم.

أمامنا يوم طويل

كانت الجبال في الأفق تحجب عنا شروق الشمس التي لاحظنا خيوط أشعتها حين شقشق الصبح بعد الشفق دون أن نرى لحظات الشروق نفسها أثناء المسير. وكان الطريق منحنيا بعض الشيء فكانت تلوح قمتنا المنشودة أحيانا وفي أحيان أخرى تختفي خلف قمم أصغر تحجب جبالا أعلى منها بسبب دوران المسار. لكنها أخيرا تقترب! وقد كنا بالأمس نراها نقطة صغيرة بعيدة جدا في نهاية الأفق! وما زلنا جميعا معا، لم يتخلف منا أحد مثلما يحدث أحيانا مع بعض المجموعات أو يكتفي البعض بالوصول لنقطة المأوى فقط. وكنا نسعد أيضا بلقاءات عابرة مع أفراد من أفواج أخرى قابلناهم مصادفة في الطريق أو في أحد المحطات، ثم نقابلهم مرة أخرى ربما بغير سلام حتى ولكن تكفي نظرات باسمة تحيي وتشد أزر بعضنا بعضا؛ كان منهم عجوز إنجليزي مثابر جدا ومصر للإكمال حتى النهاية وعلى ملامحه نظرات فرح طفولي بريئة رغم التعب.

القمة في الأفق

قبيل الوصول كان هناك مرتفعا صعبا بعض الشيء على حافة صخرية ضيقة تطل على منحدر حاد من الجليد، كنا نحتاج فقط للحرص أثناء عبوره، لكن الدليل ومساعديه أصروا على إيصالنا فردا فردا عبر هذه االقنطرة والعودة مرة أخرى لمساعدة التالي. كنت أتفهم قلقهم وشعورهم بالمسئولية، وربما يحتاجون للقيام بذلك بالفعل مع البنات والمغامرين المبتدئين قليلي الخبرة في التمشاء عبر الجبال. حاولت إثناءهم عندما حان دوري في العبور، فهذا جزء من التجربة علي خوضه، فالتحدي في صعود الجبال ليس بدنيا فقط، بل ربما الأهم هو التمارين الإدراكية والذهنية التي تقود تصرفات المرء عن مواجهة عقبات أو عوائق بسيطة كهذه تناظر ما يواجهه واقعيا على مجال أوسع في الحياة. وما تعلمته من تجاربي السابقة أهمية اعتماد كل مغامر على نفسه أولا، ثم عدم الحرج من طلب المساعدة من الأخرين عند الحاجة ثانيا، وأخيرا المبادرة بعرض المساعدة على الآخرين إذا احتاجوا وكان بإمكانك تقديمها لهم ثالثا. لذا اعتبرت إسراع الدليل بمساعدتي نوعا من قفز المراحل، قاومته بعض الشيء وسرت جزءا من المسافة وحدي ثم استعنت برفيق سبقني في آخر وثبة فقط.

أخيرا! نتفقد جبال الأطلس أسفل منا من الشرفة

وها أخيرا قد وصلنا! قمة توبقال! على ارتفاع 4167 متر فوق سطح البحر، أعلى قمة في العالم العربي وشمال أفريقيا وسلسلة جبال الأطلس الكبير. في ظهيرة اليوم قبل الأخير من عام 2022 سادس يوم قمري من جمادى الأخرى 1444. الدقائق الأخيرة القليلة قبيل الوصول كانت - ككثير من القمم - مرتفعا شديد الميل، ربما لتبذل مجهودا أكبر وتشعر بلذة الانتصار أكثر فور بلوغها. قام الدليل ومساعده بتحيتنا وتهنئتنا فردا فردا، ووزعوا علينا بعض المقرمشات والتسالي بجانب الوجبات الخفيفة التي أحضرناها وتشاركناها معا. استغرقنا وقتنا في التقاط الصور و الراحة والتامل ومحاولة مصاحبة بعض مخلوقات الله من أهالي االجبال الذين جئناهم ضيوفا لقيل من الوقت. فلمحنا سنجابين تشاركونا بعض الطعام سريعا في خلسة دون أن أتمكن من التقاط صورة لهم، ثم بعض الطيور التي كانت تحوم حولنا واقترب البعض منها لتحيتنا من بعيد، وأخيرا الكلب رفيق المغامرين، وهي ظاهرة لاحظتها في أكثر من جبل وجود كلب أليف يسعد بصحبة الزوار والسير معهم قليلا كأنما يرحب بهم ويودعهم، لكنه هذه المرة لم يرغب فيما حاولنا تقديمه له من طعام.

الأصدقاء

حسنا لم ينته الامر بعد! فقد قطعنا فقط نصف الطريق، وأمامنا وقت طويل كي نعود أدرجنا مرة اخرى مثلما صعدنا. عادة ما يكون النزول أسرع، لكن ليس دائما أسهل، فهناك مسارات يكون نزولها أصعب من صعودها، لذلك قرر الدليل تغيير مسار المنطقة الخطرة التي صعدنا منها وقام أحد مساعديه باستكشاف البدائل وقرروا اتجاها آخر. كان هذا المسار صخريا، فاحتجنا لنزع الإطارات المعدنية من الأحذية مؤقتا لحين العودة لبقية المسار الثلجي مرة أخرى. كان هذا المسار عبارة وادي منحدر، وعادة ما يكون نزوله سهلا إذا كان جليديا، لكن نظرا لانصهار طبقة الجليد في هذا الجزء، فصار النزول ربما أصعب - وإن كان أقل خطرا - من الجزء الصغير الذي حاولنا تجنبه. فميل الانحدار شديد والصخور ذات كتل صغرية لا تثبت القدم تحتها جيدا حتى تنزل بك، فأضاف الأدلاء على أنفسهم عبءا إضافيا لمسافة أطول بمحاولة المرور بنا واحدا واحدا للأسف والعودة لإحضار الآخرين. لم أر هذا منطقيا إطلاقا. فقد تعملت من بدو سيناء عدم النزول في بطن أي وادي مطلقا، مهما بدا مغريا الوصول للنقطة النهائية بسرعة، وأن الأسلم دائما الالتفاف حوله في مسار دائري مع حواف الجبل المحيطة بالوادي حتى يكون هناك دائما حاجز ارتكاز نتكئ عليه أثناء حركتنا. حاولت اقتراح هذا على الدليل وأريته مثالا لجزء من ذلك المسار، لكنه لم يستمع وكان في عجلة، رغم أن لدينا متسعا من الوقت ومعنا كشافات أيضا فلا حرج إن تأخرنا قليلا في مسار أطول إذا حل علينا أول الظلام قبيل النهاية. فكانت النتيجة أن حاولت النزول وحدي لأجتاز جزءا كبيرا بسلام ثم أنزلق قبل النهاية لأصاب بخدوش في اليدين - فقد خلعت القفازات قبلها مع الشمس - وكدمة بسيطة في الركبة كجزء من ضريبة خفيفة تدفعها أحيانا لا ينبغي أن تعكر صفو التجربة ككل. وربما كان سبب التعجل محاولة الوصول لنقطة منخفضة بسرعة حيث أن أحد الرفاق كان قد بدأ يشعر بتعب جراء نقص الأكسجين على القمة رغم تناوله لحبة الدوار قبل الصعود، حتى أنه لم يشاركنا التقاط الصور والعبث بالثلج الذي يحبه.

وصلنا إلي الجسر قرب النهاية سريعا

بقية المسار كان يسيرا وقطعناه في شوط واحد تقريبا حتى وصلنا إلي المأوى في العصر، أبكر كثيرا مما توقعنا. لم نمكث كثيرا بعد الغداء اللذيذ، فقد كنا نحتاج للنوم بشدة، وكان هناك متسعا لأن نأخذ راحتنا في الاستيقاظ هذه المرة، لنبدأ التحرك مجددا والعودة إلى إمليل قبل التاسعة صباحا. كان اليوم الأخير غائما والرياح أشد قليلا، فكانت الأفواج القادمة إلى المأوى لتقضي رأس السنة الجديدة على القمة أقل حظا منا، وكان منهم فوج من السعوديات المتحمسات وبعض المغاربة أيضا، بالإضافة إلى جنسيات آسيوية وأوروبية أخرى. نزل القليل جدا من الأمطار الخفيفة قبل وصولنا لمناطق الشلالات، لكن ظل الجو ملبدا بالغيوم وكأن الشمس قد ودعتنا على القمة واكتفت بمداعبة الثلوج وتلطيف الأجواء لنا أثناء الصعود فقط. صادفنا بعض القطط التي لم نلتق بها أثناء الصعود، فيما قابلنا في المرتين رعاة لقطعان صغيرة من الأغنام والماعز التي لم ربما تناولنا أحدها في أحد الوجبات، مثلما اعترض طريقنا بعض الدواجن البلدية من أحد المزارع أيضا.

عشرة أغنام في المرعي

وصلنا أخيرا إلى الرياض في الثانية والنصف ظهرا، لنكون قد قطعنا أكثر من 30 كيلو متر وصعدنا ارتفاعا حوالي 2 كيلو إلا قليلا في قرابة 18 ساعة ونصف إجمالي فترة تحركنا طوال الأيام الثلاثة. أنهيت خلالهم الاستماع إلى أربعة كتب صوتية بالإضافة لاستكشاف بضعة محطات إذاعية حين تكون إشارة شبكة الراديو جيدة؛ فهي إحدى عاداتي التي أحرص عليها في السفر، محاولة استكشاف شيئا من ثقافة كل مدينة عبر الإذاعة وما يستمع إليه أهلها... ارتحنا قليلا وتناولنا الطعام قبل أن تأخذنا الحافلة لنرجع إلى مراكش مرة أخرى. غرفتنا كان في نفس رياض بقية الرفاق هذه المرة، وهو غير الذي بتنا فيه أول ليلة والذي كان أفضل، أو ربما لم نكن محظوظين في الغرفة التي كانت متاحة لنا. بعد وضع الأمتعة والاستحمام وقليل من الراحة، فارقت الرفاق لأتجول بالمدينة التي سبقوني باستكشافها وقد أسرني جمالها من أول وهلة، وربما أدركوا ذلك حين أخذني الوقت وانتابهم القلق عليّ بعد تأخري إلى ما بعد منتصف الليل بأكثر من ساعة، فلم أشعر بالوقت يمر وأنا أتجول بشوراعها وأزقتها وأسواقها وأشاهد احتفالاتهم بليلة رأس السنة في ساحة الفناء، أشهر وأقدم ميادينها.

هدأت المدينة بعد منتصف الليل فيما ظلت ساحة الفنا نابضة بالحياة

تعد مراكش العاصمة التاريخية للمغرب منذ تأسيسها على يد المرابطين قبل أكثر من 900 عام، وقد اتخذت من وقتها الطابع الأندلسي التي حافظت عليه إلى الآن، فيما تعود أقدم معالمها الباقية إلى دولة الموحدين من بعدهم؛ بينما حين غادر قبلها العبيديون المغرب وجاؤوا إلى مصر لم يخلفوا وراءهم آثارا مثل القاهرة الفاطمبية التي صارت مركزهم ومستقرهم. ظلت مراكش مركزا للحكم حتى نهاية عهد السعديين حتى انتقلت السلطة إلى الأسرة العلوية المستمرة في الحكم حتى الآن، والتي تعد من أقدم الملكيات المستمرة حتى الآن  حيث تحكم منذ عام 1666 م / 1076 هـ وتعتبر ثاني أقدم أسرة حاكمة في العالم حيث تأتي في الترتيب بعد أسرة إمبراطور اليابان، وقبل أسرة ملك إنجلترا. ويعود نسل العلويين إلى الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما، مثل أبناء عمومتهم من الهاشميين الذين حكموا الحجاز والعراق وجزءا من الشام، حتى استقر بهم الأمر في الأردن فقط حاليا، فيما ينتسب الفاطميون و أسر ودويلات شيعية أخرى إلى سيدنا الحسين. ومن الملاحظ أن التاريخ الفاطمي عادة ما يأتي ذكره لماما، فيما ربما يتم الاهتمام أكثر بالأدارسة أصحاب التأسيس الأول للمغرب الأقصى.


إدراك أبعاد السياق التاريخي للمغرب عامة ولمراكش خاصة مهم لأنك ستعايشه في كل لحظة تتنسم فيها عبق هواء مراكش وتخطو في أزقتها وشوارعها داخل أسوار المدينة القديمة وخارجها أيضا بعد أن تمر من البوابات وتكمل المسير في امتداد المدينة قبل أن تصل لتوسعات عمرانها الحضري الحديث الذي لا يبالغ في المدنية الحديثة المنفصلة عن الجذور، بل يحافظ على نفس نسق وروح المدينة القديمة.

فندق جديد بالقرب من منطقة الجولف الحديثة ومنتزه الأمير الحسن محافظا على روح المدينة الحمراء

نمت متأخرا بعد أن استغرقني التجوال في المدينة ليلة رأس السنة واستيقظت مبكرا رغم ذلك، لكني حين حاولت اللحاق ورفيقي بصلاة الفجر في المسجد، كان الجماعة قد انقضت وانصرف معظم المصلين فيما عدا مجموعة صغيرة مكثوا قليلا في حلقة لتلاوة القرآن. قراءة ورش عن نافع المصري هي المنتشرة بالمغرب إلى الآن مثلما كانت منتشرة بمصر قبل العثمانيين واعتماد قراءة حفص، فيما تتبنى الفقه على المذهب المالكي، كما تنتشر الطرق الصوفية التي ينخرط أعضاؤها أيضا في الحياة السياسية والأحزاب ولا يقفوا بالضرورة علي يمين السلطة كما الحال في الطرق المستأنسة لدينا.

مقطع إذاعي لإنشاد صوفي من إحدى محطات الراديو

كان هذا آخر إفطار لنا معا، بعدها ودعنا أول الراحلين ليلحق بطائرته ظهرا، فيما بقي لدى البعض متسع من الأيام في أجازتهم لزيارة مدن بعيدة أو قريبة أخرى مثل آسفي وصويرة، بينما سأكتفي بالمزارات المحيطة بالمدينة القديمة وسأتخلى عن بعض الخطط مثل زيارة شلالات وادي أوزود وبستان النخيل ومنتزه أمانار التي لن يتسع الوقت لهم في اليوم ونصف المتبقين لي.

افترق بعضنا كل حسب خططه، وبقي البعض حيث أخلينا الغرف و لملمنا حقائبنا وتركناها لدى موظف الاستقبال في الرياض ثم انطلقنا لاستكمال زيارة بعض معالم مراكش المحيطة. بدأنا بقصر الباهية، وهو قصر ضخم على الطراز الأندلسي تم تشييده على مرحلتين منذ منتصف القرن التاسع عشر على يد سي موسى حاجب الملك، ثم استكمله ابنه بعد وفاته عام 1900. يضم القصر دارين (رياض كبير ورياض صغير) وعدة أجنحة وقاعات يتوسطها حديقة كبيرة وصهريج مياه. لن يكفيك الوقت كي تشبع من التأمل في جماليات وتفاصيل كل قاعة بدءا من الأرضيات وفسيفساء الجدران مرورا بزخرفة الأبواب الخشبية وتفصيلاتها المنمنة وانتهاءا بالإبداع بالغ الإتقان في زخارف الأسقف، ناهيك عن الخضرة وتنويعات النباتات والزهور المحيطة. خصصت بعض الصالات لعرض مقتنيات أثرية متحفية أو لوحات توثيقية تاريخية وثقافية، فيما خصصت قاعات أخرى لمعارض موسمية أو أحداث ثقافية مختلفة كان منها وقت زيارتنا معرضا فنيا للأزياء وآخرا للخط (كاليجرافي) والكتابة على النقود المعدنية.

كل تفصيلة في القصر تحتاج إلى قصيدة

قمنا باستقلال طاكسي بعدها كي نزور حديقة ماجوريل وهي محمية نباتية ضخمة أسسها الفنان الفرنسي جاك ماجوريل وتضم أيضا متحفين أسسهما بيير بيرج أحدهما لفن البربر والأخر متحف أزياء سان لوران (شريكه صاحب العلامة التي تملكها شركة لوريال حاليا). أعرف أن الشتاء ليس أفضل وقت لزيارة الحدائق العامة، حيث مررت بتجربة شبيهة حين زرت حديقة نخيل فرانكفورت بناءا على توصية صديق، ولم نجد معظم النباتات قد أزهرت أو أورقت، ولكننا لن نفتقد الاستمتاع بالخضرة والأشجار غير الموسمية والنباتات الشتوية على أي حال. غير أننا فوجئنا بطابور ضخم أمام البوابة يتحرك ببطء، وريثما نصل ربما لن يتبقى لنا وقتا كافيا كي نجوب الحديقة قبل أن تغلق أبوابها. وجدنا لافتات تشير لإمكانية حجز التذاكر أونلاين، لكن عند دخول الموقع وجدنا أنه ينبغي الحجز المسبق قبلها بيوم. قررنا أخيرا الجلوس في أحد المقاهي المجاورة والتسوق في بعض المحال المجاورة التي تعرض في الأغلب منتجات وأزياء عصرية ذات فئات سعرية أعلى من الأسواق الشعبية في مراكش القديمة. كنت فد ابتعت من سوق مراكش لأبي في اليوم السابق الزي المغربي التقليدي، ويسمونه جلابية مثلنا (وليس قميص أو ثوب مثل الخليج)، وتختلف أشكاله وتطريزاته بتنويعات كثيرة، والنوع الذي ابتعته يسمى فوقية لأنه يتم ارتداؤه للخروج فوق الملابس فيكون بلا جيوب، ولكن فتحاته تفضي إلى جيوب الملابس التي تحته، ويكون به قُب من أعلى، وهو غطاء الرأس المدمج في الملابس. ساعدني صديق أثناء عملية الشراء، فالأمر يحتاج إلى فصال ومساومة مثل باعة العتبة والموسكي الذين عليك أن تبدأ معهم الكلام بثلث السعر الذين يزعمونه في البداية - وأنا لا أجيد هذا، ولكني ابتعت في النهاية من بائع لطيف لم يتعبني في السعر كثيرا، لكني لم أجد أذواقا أخرى حريمي جيدة ولم أجد مقاسي أيضا. وعندما أرسلت لوالدتي بعض صور عباءات المحال الراقية لم تعجبها أيضا.

أسواق المدينة العامرة

قررنا العودة سيرا على الأقدام كي نرى جوانب أخرى من المدينة لن نتمكن من المرور بها إذا ركبنا السيارة. فالمسافة ليست كبيرة جدا وما زلنا بلياقتنا بعد أن استراحت مفاصلنا اليوم السابق الذي تلا عودتنا من توبقال. في الطريق توقفت عند عربة أكل لتجربة طبق وحساء الحلزون. كنت قد سمعت من بعض الأصدقاء عن هذه الأكلة الشهيرة في المغرب وعزمت على خوض التجربة التي تبدو غريبة لدى البعض. لكني لم أجدها تباع كنوع من الأطباق الجانبية في أي من المطاعم التي مررنا بها. فكان الغريب بالنسبة ليس تناول الحلزون، بل أن أتخلى عن صرامتي في تجنب أكل الشارع كي أخوض التجربة مثلما فعلتها مرة سابقة في الهند بناء على توصية مرافقيّ وتأكيداتهم في حسن اختيار من يثقون به وتجنبهم أيضا لمعظم طعام الشارع مجهول المصدر. وربما أذكر أنه طوال حياتي لم أتنازل في أمر أكل الشارع وآكل من عربة فول مثلا في مصر إلا ربما مرتين فقط بعد إلحاح شديد من الأصدقاء، وكنت أشعر في المرة الأولى وكأني أرتكب جريمة شنعاء، فضلا عن خيانة طبق فول البيت بطريقة أمي أو جدتي لأبي المميزتين والتي بحق لم أجد من يتقن تهيئة الفول مثهلما في أي المطاعم الشعبية الشهيرة (ونفس الأمر بالنسبة للكشري لكن لهذا الاستطراد حديث آخر). المهم أني وقفت على عربة الحلزون، وشاركني بعض الرفاق تذوقه فيما امتعض آخرون، ووجدت مذاقه يقترب بعض الشيء من أكلة بحرية تناولتها قبلها بأشهر في لشبونة. سعدت بالتجربة دون رغبة في تكرارها وربما أعجبني الحساء أكثر، وحمدت الله أن لم تصب معدتي بشيء بعدها.

تستخدم الخلة كي تنزع طرف الحيوان البحري من القوقعة

وصلنا إلى الرياض ليلا لأخذ أمتعتنا والانتقال كل إلى الفندق الذي حجز به امتداد رحلته لأفاجأ بالحجز المزيف الذي أشرت له سابقا بعد وصولنا إلى المكان الذي لا وجود له إلا افتراضيا على الخريطة وقد أغلق منذ زمن. تناولنا العشاء، ثم ساعدني الرفاق في حجز سرير في أحد بيوت الشباب كانوا قد حجزوا به من قبل، وكنت محظوظا أن أجد مكانا شاغرا في هذا الوقت وخلال موسم سياحي يتطلب حجزا مسبقا قبلها بوقت كاف. استغرقنا قرابة حوالي الساعة تقريبا جبنا فيها المدينة القديمة ودهاليزها من أقصاها إلى أقصاها فرق المسافة ما بين المكان الذي كان من المفترض أن أنزل به إلى المكان الجديد، وأتعبت معي الرفاق في هذا الجولة الطويلة فضلا عن مساعدتهم في جر الحقائب، لكن ربما خفف عنهم متعة استكشاف خبايا المدينة التي لم نكن لنمر بها لولا هذا الموقف السخيف.

في اليوم الأخير حاولت استغلال الوقت قدر الإمكان، لكن لم أستيقظ فجرا كما أردت، فتحركت سريعا دون إفطار، وأثناء خروجي من بين الأزقة التي يقع بها بيت الشباب، أوقفني شابان بتحية سريعة ثم عرضا بتورية أن معهما دخان للمزاج إن أردت. أول مرة أكون في موقف يعرض علي حشيش أو مخدرات هكذا، ولكني لم أشعر بالخطر وانصرفت عنهما فقط وأكملت طريقي فيما كان يتحاور معهما أحد الأجانب الذي خرج بعدي بقليل.

بدأت جولتي بزيارة قصر البديع، وهو أقدم بكثير من قصر الباهية، حيث يرجع تأسيسه إلى عهد السعديين قبل أكثر من 400 عام. تصميمه الأساسي حين شيده السلطان المنصور السعدي كان يشبه قصر الحمراء بغرناطة، كي يكون معلما لدولتهم تحيي ذكرهم على سنة الممالك السابقة من مرابطين وموحدين وبني مرين كما يقول الشاعر "إن البناء إذا تعاظم شأنه .. أضحى يدل على عظيم الشان". لكنه تهدم بعد 200 سنة تقريبا وقد زالت دولتهم قبلها، واستخدم بعض رخامه الذي جلب من الروم في بناء قصور أخرى في مكناس عاصمة العلويين الثانية بعد فاس وقبل الرباط. خضع القصر لعمليات ترميم وخصصت بعض قاعاته لعمل معارض فنية أيضا، لكنه كان أقل ازدحاما من قصر الباهية والأفواج السياحية التي تأتيه أقل عددا.

أخبرني الفنان صاحب معرض الفن التشكيلي بإحدى قاعات القصر أنه غير مسموح بالتصوير

بعدها مررت على مقابر اليهود بمراكش. كان المكان شبه خاليا سوى من موظف واحد للتذاكر و ثلاثة زائرين. لم يكن هناك الكثير من اللوحات الإرشادية سوى أمام بعض مقابر علية القوم المزخرفة بطراز إسلامي أندلسي كمعظم المعمار المغربي الأصيل.



عدت قبيل صلاة العصر إلى ساحة جامع الفنا لأبحث عن المسجد الذي سمي الميدان - الذي تجولت في سوقه العامر قبل يومين - باسمه، حيث أنه يبدو هناك بالفعل ما يشبه السور والمئذنة، لكني علمت فيما بعد أن الساحة مسماة بهذا الاسم من الفناء أي الزوال لأنها على أنقاض مسجد لم يكتمل بناؤه منذ عهد السلطان المنصور السعدي. بعد دقائق قليلة كنت في جامع الكتبية، أقدم مسجد في مراكش على حالته منذ عهد الموحدين، وقد بني على أنقاض مسجد آخر بناه المرابطون قبلها.

كان الجوع قد ألم بي منذ عشاء الأمس، وكان أمامي إما تجربة أكلة حوت - سمك بالدارجة - من أحد مطاعم الأسماك المحيطة، أو الذهاب بسيارة أجرة لأحد أشهر مطاعم المدينة - في المنطقة الحضرية، يدعى طباخ الملك (عم أمين) - يكتبونها "عند أمين" ولا أدري هل "عند" تعني المكان نفسه أم ماذا. اخترت الثانية بناءا على توصية صديق واخترت وجبة الطنجية وفق ترشيحه. لكن كعادة الأماكن التي تأخذ صيتا مبالغا، لم أجد الأمر مبهرا، سوى ربما في طريقة التقديم في القدور الفخارية والأطباق المزخرفة، لكن الطعم كان شديد الشبه بطريقة اللحم الكمونية التي تطهيها أمي منذ عقود، ولا يوجد سوى الخبر مع قدر الطنجية الذي لم يمكنني تغيير مقداره وطلب كمية أقل كي أجرب طبقا آخر، والسلطة التي طلبتها كطبق جانبي كانت عادية جدا.

قصاصات من اللقاءات الصحفية مع صاحب المطعم

أثناء العودة مررت بمول المنارة لأبتاع من كارفور أنواعا مختلفة من الشاي الأخضر، لم أجد بينها صنف شاي سلطان الأسود بالنعناع الذي ربما كان يصدر خصيصا للسوق المصري فقط قبل سنوات. ولكني وجدت في النهاية مذاق الشاي الذي ابتعته في اليوم السابق من العطار في السوق أفضل من تلك الأنواع، التي يميزها فقط أنه يمكن إعدادها سريعا بصب الماء المغلي مباشرة، دون الحاجة لغليها في الإبريق على النار.

مجموعة الشاي التي لم أطور ذائقتي كي أميز الفروق بينها جيدا بعدا

لم أنه قائمة التسوق والهدايا التي كنت أخطط لها، لكن الوقت قد أزف واقترب ميعاد الطائرة، فأوقفت طاكسي ووصفت له وجهتي إلى النزل أولا كي أحضر حقائبي. قام بركن السيارة في شارع قريب على مضض بعد أن طلب مني إعطاءه نصف الأجرة ورفضت، ولكني تركت معه الأمتعة التي ابتعتها من السوق والمول، ونزلت مسرعا في الأزقة الضيقة حتى الهوستيل، ناسيا حتى أخذ رقم هاتفه، فربما ضللت الطريق وسط الحارات المتشابهة أثناء العودة. لكن مر الأمر بسلام وعدت إليه لننطلق مجددا إلى المطار وأنا أودع المدينة قرب الغروب معاهدا إياها على العودة مجددا والمكوث فترة أطول وزيارة جاراتها من المدن الأخرى حتى أجوب المغرب كلها وأرتوي، فقد عدت أشد عطشا مما جئت.