Saturday, July 26, 2025

من أعلى قمة أفريقية - رياضات تحمل، أم تجارب تأمل؟

مر حوالي عشر سنوات منذ أن بدأت الانخراط في ممارسة ما عرفت فيما بعد أنه يسمى: رياضات التحمل؛ مثل صعود الجبال، والمشي في البرية (أو "الهايك" الذي اخترت لتعريبه "تمشاء" ولم يعجب بعضهم 😅)، و جري المسافات الطويلة، والسفر بالدراجة الهوائية.


بنهاية العام قبل الماضي وقبيل إتمامي الأربعين عاما كنت قد انضممت لركب المليون عداء سنويا الذين قطعوا مسافة الماراثون الكاملة، وانفتحت شهيتي بعدها أكثر لقطع مسافات أعلى في نطاق الألترا التي تزيد عن الخمسين كيلو متر، وبالطبع لم أصدق نفسي قبلها ولا بعدها؛ أنا الذي كنت أشاهد العدائين طفلا في دورات الألعاب الأوليمبية على أنهم أبطال خارقين لا أجرؤ على التفكير حتى في محاولة تقليدهم، وأنا الذي كنت أستصعب اقتراح صديقي أن نعود من المدرسة للمنزل مشيا لمسافة لا تزيد عن كيلو متر ونصف فقط وأعده مخبولا! فضلا عن إصابة مبكرة للروماتيزم أدت إلى عرجة بسيطة في ساقي اليمني وقتها نتيجة التهاب اللوزتين وسرعة الترسيب في الدم تعافيت منها لاحقا بفضل الله.

 بعض من الميداليات التي حصلت عليها في سباقات عدو ودراجات قبل إنجاز الماراثنون


لم أكن أخطط لكل هذا، وها أنذا أحدثكم الآن من قمة الجبل الخامس عشر أو ربما الثامن عشر - لا أدري - فقد توقفت عن العد و الإحصاء بعد الجبل العاشر تقريبا، والذي لم أكن أحلم إلا بمشاهدته فقط في البرامج الوثائقية وأتعجب من بعيد من المغامرين الذين يقطعون آلاف الأميال من أجل وصوله. فيما أجد الآن صعوبة في إجابة المتسائلين  بعد العودة من كل قمة جبل جديد أو جرية طويلة أو سفرية بالدراجة حين ينظر إلينا الكثيرون بتعجب وذهول: لم تفعلون في أنفسكم هكذا؟ من أجل ماذا كل هذه المشقة! لم لا تقضون عطلات مريحة معنا على الشاطئ؟! وهأنذا هنا لأجيبكم وأجيب نفسي السابقة المتعجبة من سؤال "لم كل هذا بحق السماء؟! من أجل ماذا تفعلون في أنفسكم هكذا؟"

العداءة سيفان حسن في لقاء صحفي عند تكريمها في ماراثون لندن وحديث صادق مع النفس 😀


هل تحبون أن أضعكم في المشهد الحالي أولا؟ أم أعود إلى الوراء قليلا أو كثيرا لأتغزل في حب رياضة التمشاء، التي بدأت بها رحلة العشر سنوات تلك قبل التشعب مع رياضات أخرى؟ والتي كل منها بالنسبة لي هي تجربة متكاملة أكثر منها رياضة. 

فتحصيل اللياقة يمثل لي وسيلة ونتيجة لغاية معايشة التجربة نفسها. فكعادتي الساخطة على كثير من ثقافة المجتمع السائدة لم يكن يستهويني قضاء العطلات بالصورة النمطية الرتيبة في فندق على شاطئ البحر وما يعدونه استجماما مملا، وكنت أود أن أجوب أماكن مختلفة و معايشة تجارب جديدة كل مرة. والتي كان من ضمنها استكشاف براري مصر والذهاب لأقاصي الأماكن في سيوة و الواحات الغربية و الصحراء الشرقية، وجذبتني حينها نداهة التوحد مع الطبيعة بكل أشكالها و ألوانها، فتعرفت على مجتمعات الهايك و الجبال، والذين بدورهم عرفوني على مجموعات الدراجات والسفر الطويل، والذي انتقلت منه بعد ذلك للعدو وجري الدروب في البرية.


حسنا كفاني استطرادا، فأنا الآن في لحظة نادرة على قمة ثلجية تحت خط الاستواء في فصل الشتاء الجاف في شهر يوليو ودرجة حرارة 10 تحت الصفر أحدثكم من أعلى قمة في أفريقيا وأولى القمم السبع، من جبل كليمنجارو العزيز في تنجانيقا - والتي هي الجزء الغربي من الاتحاد بينها و بين زنجبار - الجزيرة الشرقية والتي كانت عاصمة السلطنة العمانية سابقا - فيما يعرف الآن بدولة تنزانيا.

جبل كليمينجارو من الطائرة


وفيما كانت أعلى قمة عربية تتحدث الأمازيغية، فإن أعلى قمة أفريقية تتحدث لغة مقاربة للعربية: السواحلية والتي هي مزيج من العربية ولغات محلية لكنها تكتب بالحروف اللاتينية. وهو تأثر مفهوم فقد دخلها مبكرا الإسلام قبل بلاد المغرب عبر التجار العرب و الفرس الذين يظهر تأثيرهم حتى في اسم الجزيرة التي تعني بالفارسية "أرض الزنج"، على غرار الكثير من مسميات البلاد الأفريقية بمنظور استعماري يعتمد على اللون في عصور ما قبل الصوابية السياسية، مثل "السودان" - بلاد السود، ونيجيريا و النيجر - من نجرو أسود، و إثيوبيا - أرض الوجوه المحروقة، وغينيا - الأرض السوداء.

المهم أنني الآن على القمة حقا! بعد مسير أربعة أيام وسط أجواء متباينة من طبيعة الخلاق ما بين غابات و أمطار و سهول خضراء ودروب صخرية و ثلوج كأنك عبرت فيها ألوان الأراضين وخبرت في هاتيك الأيام الفصول الأربعة كلها  من شتاء استوائي دافئ إلى برد أوروبي قارص - ربما سأفرد تدوينة خاصة لتوثيق الرحلة كاملة لاحقا، لكن دعني أتملى من الجمال الذي يعوض كل ما أعانيه الآن من تعب و إرهاق و تسارع النفس والنبض لنقص الأكسجين و آلام في بعض المفاصل و القليل من الأعراض الأخرى التي لم تختبر بعد أقصى قدراتي على التحمل، حيث يعيدنا هذا مرة أخرى لسؤالك عزيزي، لم تفعلون في أنفسكم هكذا؟!

نذر يسير من الجمال


حسنا، فرغم كل هذه المعاناة الحقيقية، إلا أنني لا أعتبرها مجرد رياضة، ولا اختبار قوة تحمل، بقدر ما هي تجارب معايشة كاملة تجني فيها العديد من الثمار التي ربما لن تستوعبها عزيزي ما لم تخبرها بنفسك، ولكني أحاول أن أقرب لك الصورة لعلك تدرك جمال ما تعده لدينا ضربا من الجنون.



التعبد في محراب الطبيعة

عندما سئلت عن الهايك تحديدا من قبل كان ردي المباشر دون أدنى تفكير هو أن "التمشاء سنة الأنبياء" فأنت تمارس عبادة قد أمرنا الله بها "قل سيروا في الأرض فانظروا"، وكما جاء في الأثر فإن "تفكر ساعة خير من قيام ليلة"، فأني لك أن تجد لحظة خلوة تستيطع فيها معايشة عبادة التأمل وسط صخب الحياة المتسارع وضوضاء المدينة؟ حيث تتوحد مع طبيعة الخلاق وتشهد كل حبة رمل على تأملاتك وتسبيحك.


سر الخلوة

ثم إنها فرصة رائعة لتنقطع عن منغصات الحياة حقا بضعة أيام حيث تواجدك في أماكن نائية بلا شبكة ولا تواصل مع العالم الخارجي يتيح لك خلوة رائعة مع ذاتك و حديث النفس و محاولة الإجابة على الأسئلة الكبرى التي تنشغل عنها وسط التفاصيل اليومية، فتجد الكثير من المشاكل التي تعانيها تنزاح من على كاهلك من تلقاء نفسها واحدة تلو الأخرى, فتشحن طاقتك دون الحاجة للتحدث مع استشاريين ومعالجين.


المثابرة ستذهلك - stretching your limits

فضلا عن أن اختبار قدراتك يجعلك تستكشف إمكانيات ذاتك لأبعد من أي حدود وهمية قد وضعتها لنفسك، وستذهل من الطاقات الكامنة لديك التي تدفعك لتحقيق ما لم تكن تحلم به، مما يعينك ويحفزك فيما بعد على خوض معترك الحياة بروح أكثر إصرارا ومثابرة دون الاستسلام أو الإحباط السريع مع أول منغص.

فعلى سبيل المثال أذكر أن أول رحلة طويلة أقرر خوضها بالدراجة كانت من القاهرة للغردقة في ثلاثة أيام، وكنت ربما المبتدئ الوحيد في المجموعة ودراجتي ذات وزن ثقيل غير مخصصة للطرق السريعة، وبعد أول يوم بدأت بعض الآلام تتراكم في جسدي - رغم سفري مسافة مقاربة مثلها ليوم واحد قبل شهور - لكن العزيمة على الاستمرار والمواصلة كانت أقوى، فاعتاد جسمي في اليوم الثاني، لكن اليوم الثالث بدأت سرعتي تتباطأ في الربع الأخير من الطريق و أنا أرى بعضهم يتوقف وينسحب، ويحاول المنظمين معي أن أكتفي وألتحق بسيارة الدعم، ولكن طاقة الإرادة كانت قد دفعت طاقة الجسد لدي حتى وصلت لخط النهاية، في المركز الأخير بالطبع الذي اعتدت الاحتفاظ به في مرات لاحقة أيضا بكل فخر 😁


شعرة الحكمة

في المقابل فإنك تتعلم أيضا أنه ليس كل معركة يجب عليك خوضها للنهاية أيا كان الثمن، وهناك خيط رفيع بين التوسط و الحكمة وبين طرفي النقيض من التهور و الاندفاع بحماس غير مسئول أو التخاذل والانسحاب المحبط دون طرق سبل المحاولة والمثابرة.

ففي إحدى المرات كنا قد قطعنا أكثر من ثلثي المسافة للوصول لقمة جبل جديد رائع كنا متحمسين له منذ فترة، ولكن لعدة ظروف جعلتنا نبدأ في التحرك متأخرا بعض الشيء مع تباطؤ حركتنا في المنتصف انتظارا للحاق بعض الرفاق الذين أصابهم شيء من التعب، بالإضافة لكون الجزء المتبقي أصعب وسيستغرق وقتا أطول، مما سيكون مرهقا لهم مع ضيق الوقت المتبقي من النهار، حيث أنه لم يكن من الخطة أن نسير في الظلام ولا أن نخيم ونستكمل في اليوم التالي نظرا للتقلبات الجوية ولا معدات معنا لذلك، فقد كان القرار أن نودع الجبل ونستدير قافلين على وعد بلقاء آخر، مقدمين سلامة الجموع على المخاطرة في ظروف غير متوقعة ومستذكرين الحكمة الدائمة أن الكنز دوما في الرحلة أيا كان منتهاها.


حنكة الدروب - thinking fast and slow

ومن كنوز هذا النوع من الرحلات أنه يعلمك أيضا حسن التدبير واتخاذ القرارات على المدى القصير والطويل كليهما. فكما عليك في أن تتحسس موطئ قدمك عند كل خطوة في بعض أجزاء الدروب للتأكد من ثبات كل صخرة تحت قدميك، وربما يديك أيضا في الأحيان التي تحتاج فيها استخدام الأطراف الأربع، فإنه يعلمك التخطيط المسبق لمسار الرحلة كلها منذ لحظات التدريب الأولى قبلها بفترة وحتى كل قرار بالاستمرار أو العودة طوال الطريق بناءا على مدى تكيفك واستمرار جاهزيتك بدنيا ونفسيا وعدة ومؤونة طوال الطريق أو السباق، وحتى بعده فيما يأتي من تحديات أخرى تحضر نفسك لها.


ألفة المعية - support system

عندما تحدثت عن العزلة والتأمل والخلوة فم يعنِ ذلك أنك تكون وحيدا شريدا هائما في الملكوت منفردا، فهناك صحبة بالطبع و رفقة تعينك ويشد بعضها أزر بعض على وصول الغاية سويا، وهذا أجمل ما في رياضات التحمل، فهي بطبعها تعاونية لا تنافسية. فجميعنا سوف يصل، وكل منا يهمه أن يصل رفاقه معه لا أن يصل قبلهم ولا يعبأ بأن يصل أحدهم قبله. بل بالعكس الجميع يشجع الجميع، والكل يحتفي بإنجاز كل منا أيا كان حجمه صغير أو كبيرا. وهذه البيئة الداعمة من أكثر ما نحتاج أن نتعلمه في الحياة التي أهون من أن نتنافسها و أتفه من أن نتصارع عليها بدلا من أن نعين بعضنا عليها معا. 

وعلى سيرة التشجيع، أذكر أنه في بداية ممارستي لجري الدروب وجدت سباقا في محمية وادي دجلة لمسافة 16 كيلو متر، ولم أكن قد قطعت مسافة مثل هذه من قبل قط، ولكن كعادتي في إلقاء نفسي قسرا في اليم حتى أتعلم الطفو سريعا قبل أن أتيح المجال للكثير من التفكير وداء التردد، قلت لم لا واشتركت فورا. في يوم السباق بدأت بحماس المبتدئين الغر حتى وجدت معظم المتسابقين يختفون من حولي بعد ثاني كيلو تقريبا بينما أنا محافظ على معدل سرعة معتدل بالنسبة لقدراتي وقتها وأدركت حينها أنه ليس معدلا سريعا كما ظننت. وحينما شارفت الكيلو الرابع فوجئت بالعائدين في وجهي يلوحون لي بحماس، فاستوعبت أنهم أبطال العدو السريع الذين جاوزوا بالفعل أكثر من نصف المسافة ذهابا ثم التفوا وأكملوا نصف المسافة المتبقية إيابا أيضا، بينما أنا بالكاد قطعت ربع المسافة الكلية فقط. هنا بدأت تروادني الشكوك هل أقفل عائدا أم أستمر، لكني حسمت الأمر سريعا وأكملت، فهناك الكثير معي غير الأبطال هؤلاء، حتى قابلت في وجهي بعدها جدة أجنبية عمرها ضعف عمري تقريبا وقتها تحييني بتشجيع وعربية مكسرة "عاااااش، ياللا ياللا"- سأتشرف بمعرفتها لاحقا وتكون مصدر إلهام لي وللكثيرين، حيث دبت فيّ طاقة إضافية وقتها من تشجيعها فضلا عن خجلي أن أكون شابا هكذا ولا أستطيع ملاحقتها 😂 في طريق العودة لم يتبق من المتسابقين السلاحف مثلي الكثير نلوح لبعضنا كل حين، حتى صرت وحيدا لمسافة معتبرة بدأت تداهمني فيها هلاوس التعب فأقرأ مثلا يافطة الكيلو 6 على أنها 3، أو أتخيل سراب ماء في الأفق خاصة من نفاذ المياه معي، أو أسمع أصوات رفاق وهميين حولي وسط الصحراء الجرداء 😅 لكن ذهب كل هذا العناء كأن لم يكن فور اقترابي من خط النهاية وسط صيحات الحفاوة بإنجازي الرهيب وتحقيق المركز الأخير بكل فخر كالعادة 😁


تواضع الأنا - asking for help

البيئة الداعمة تكسبك فضيلة أخرى إضافية غير مساعدة الآخرين أو مشاركة الطعام والشراب والأدوات مع المجموعة أو التشجيع المعنوي المتبادل، بل أيضا تعلمك أن تطلب المساعدة بنفسك من الآخرين عند الحاجة، دون حتى الانتظار أن يعرض أحدهم عليك ذلك. فكثير ما نظن أن طلب المساعدة مناقض للاستقلالية والاعتماد على النفس وربما ينقص من كبرياء المرء, لكن الحياة في الواقع لن تسير إذا بالغت في إلقاء كل المسئوليات على كاهلك واستنكفت أن تطلب الدعم ممن يحب فعلا أن يقدمه لك إن استطاع.
أذكر أثناء رحلة نزولنا من أحد الجبال أن صادفنا مسارا شديد الانحدار، ولم تتمكن ساقي القصيرة من الوصول إلى الصخرة التالية وظللت عالقا لحظات حتى لمحني أحدهم وأرخى إلي كتفه لأتكئ عليه كسلمة وأنزل للصخرة التالية، وقد شعرت بحرج شديد حينها حيث لم أكن لأطب هذا من صديق قريب فضلا عن رفيق قد عرفته توا قبل يومين فقط. لكن الموضوع أبسط من هذا، حين تضيق بك السبل، لا تظل تدور في دوائر مغلقة مع نفسك، شارك همك مع الآخرين دون تردد وستفاجأ من كم الدعم الذي ستلقاه.


التخفف - minimalism

فائدة أخرى تكتسبها من التخييم في البرية مع الحد الأدنى من مقومات الحياة المعزولة عن الحضارة المدنية وهي مهارة التخفف، حيث سيعلمك التوحد مع الطبيعة الاعتماد على أبسط الأشياء وفضيلة الاستغناء. حيث ستكتشف أن كثيرا مما كنت تعده أساسيا في حياتك هو أمر ثانوي يمكن التعايش بدونه، وستفاجأ حين تجد أن حقيبة سفرك في الرحلة العاشرة لسفر يستغرق أسبوعا قد صارت أصغر بكثير من أمتعة أول رحلة لسفر يومين فقط. فستتخلص تدريجيا من أفكار معقدة كانت تكبلك. فلن يصدق من يعرف عني إصابتي بالوسواس القهري وهوس النظافة والإسراف الشديد في الماء أني صرت أكتفي بزجاجة صغيرة جدا في الوضوء مثلا وسط الصحراء، رغم إمكان أخذي برخصة التيمم.


صحة أفضل

أما تحصيل اللياقة فهو كما ذكرت وسيلة لغاية أكبر وهي معايشة التجربة ذاتها فتجد نفسك صرت رياضيا بالضرورة. وهذه ميزة كبرى عندما أقارن ذلك بأصدقاء كانوا رياضيين منذ سن صغيرة وحتى العشرينات، ثم لما صاروا إلى الثلاثينات والأربعينات وأخذتهم دوامة الحياة نسوا الانتظام الرياضي وعانوا مبكرا من مشاكل الكهولة والبدانة وآلام الظهر والمفاصل. أما هنا فلأن غايتك أكبر، تجد نفسك مضطرا بكل سرور للالتازام بجدول تمارين منتظم، وتستيقظ مبكرا لتجري في البرد القارص أو تتأخر بعد العمل لتمرينة ليلية في رطوبة الصيف حتى تكون مؤهلا للتحدي القادم، والذي يكون عادة أصعب مما خضته من قبل، ولكنك تقبل عليه بحماس، وكلما تحقق إنجازا تتعطش للمزيد منه بشغف وتطلع وشراهة أكبر وكأنها دائرة إدمان، لكنه إدمان حميد في تحدي ذاتك وليس تحقيق أرقام قياسية في منافسة مع آخرين.


تقدير النعم

قبل دخولي في دوامة الإدمان الحميد هذه لم أكن ألتزم بجداول تدريبات أو تمارين معينة بانتظام قبل أي تحدي، بل كنت أقفز في البحر مغمضا عيني كما ذكرت سابقا، فكان بالطبع يتراكم عليّ الآثار الجانبية بشكل أكبر بعد كل نشاط. لكن هذا ساهم في إدراك كم النعم التي يألفها المرء دون أن يشعر، وكيف يمكن لمفصل صغير أن يؤثر على حركتك كلها، أو جرية طويلة تؤثر على ذراعيك أكثر من ساقيك، أو الآلام المختلفة التي تكابدها بعد الاستيقاظ من أول راحة بعد مجهود اليوم السابق الذي لم تكن تشعر به، وتباينها بين صعوبة في المشي أو حركة معينة للجسم أو الرقبة ، أو التحول لمشية البطة رغما عنك أثناء السير 😀وغيرها من الأعراض. بل إنني أذكر بعد أول ماراثون لم أقو على حركات قيادة السيارة البسيطة مثل تحكم القدم في دواسة الوقود والمكابح. وبعد تحدي آخر كنت أبطأ من جدتي في حركة صعود السلالم التي كانت تأخذها سلمة سلمة في أواخر أيامها رحمها الله. فتستشعر مع كل هذا أطياف جديدة للحمد وشكر النعم لم تكن تدركها من قبل.


التحقق - feeling of accomplishment

ورغم أن الكنز في الرحلة حقا لا بلوغ قمة أو وصول لخط نهاية، لكن الشعور بالإنجاز له مذاق خاص أيضا، والجميل أنك تستطيع تحقيقه بصفة متكررة مع وضع أهداف صغيرة تزيد بالتدريج مع كل تجربة ومغامرة، مما يعوض بعض الشيء من إحباطات الحياة التي لا تستطيع فيها تحقيق الإنجازات التي ترنو إليها وسط ظروف ليست كلها في نطاق سيطرتك. أما هنا فأنت تتحكم في نوع التحدي ومقدار الألم والمعاناة التي ستكابدها للوصول للغاية التي تبغيها.


روح متجددة - reflections

أما المفاجأة هي أن خط النهاية أو قمة الجبل الذي وصلته بعد شديد العناء قد لا يكون بالضرورة ممتعا أو مبهرا، ستستعد قليلا بخبر الوصول نفسه وتهنئة الجموع بعضهم بعضا، لكنك ستجد مشهدا عاديا غير مميز أو لا مشهد مطلقا حتى. و غالبا ما ستكون قد مررت على المشاهد الأكثر تميزا والطبيعة الخلابة من نباتات وخضرة وأصوات طيور وامتداد الصحاري والتشكيلات المبهرة للصخور والسحب والكثبان الرملية والثلوج وسط الطريق أكثر أو ربما عند المبيت ليلا حيث مشاهدة الأفلاك والأجرام والنجوم بلا عدد في صفحة السماء الواسعة، وحتى إن كانت القمة مميزة فقد يمنعك شدة التعب من الاستمتاع بها كما ينبغي مثلما كنت تتأمل بهدوء أثناء المسير.

ولكن هناك كنز آخر، لا على القمة، ولا أثناء طريق الذهاب ولا العودة، ولكن بعد الرجوع بقواعدك سالما إلى نهر الحياة العادية مرة أخرى، مع حديث نفس من نوع آخر، تسترجع فيه ذكريات الرحلة وأحداثها المتسارعة وتفاصيلها الدقيقة، وانعكاس التجربة ككل على ذاتك وروحك وتستشرف كيف غيرت فيك، وستنبهر بمدى تأثيرها على شخصيتك والتطور المستمر في نسخ أفضل وأنضج منك سابقا.

الأرض ملكك والسما والأنجم


وهكذا كما بدأنا بالتأمل وحديث النفس نختم به مرة أخرى، و إن كان المجال لا يسع للاستفاضة أكثر و أكثر في مزايا و جماليات و أفضليات رياضات التحمل.  أما الآن، فأخبرني يا عزيزي، هلا عزمت على خوض تجربة تأملك القادمة؟ لا تنس أن تدعوني علني أستطيع اللحاق بك!